د. محمد حامد الغامدي

n متى تحدث الإساءة؟ أتحدث خاصة عن المجتمع الريفي، وشخصي أحدهم رغم هجرتي المبكرة عن بيئته. سمعت، وعشت العجب، وشفت العجائب في هذا الريف خاصة بعد التقاعد. بعض مشاكله تتوالد. وأعرف علميا أن الريف زاخر بخصائص إيجابية وأخرى سلبية. وهناك نظريات يتم تدريسها في الجامعات. وهناك علماء أهل اختصاص وأبحاث ودراسات علمية عن الريف. جميع المجتمعات الريفية تتشابه في خصائصها بجميع أنحاء العالم.

n أذكر بأحد المقررات الدراسية بمرحلة الماجستير بأمريكا، كان المحاضر يوجه بضرورة أن تتم زيارة المزارع من قبل اثنين من المرشدين وليس واحدا. الأول يتحدث، والثاني يتدخل أثناء احتدام النقاش والخلاف. وظيفته تهدئة الوضع، وليس مناصرة زميله بمحاولة إقناع المزارع. بهذا يتيح الانسحاب قبل اتخاذ المزارع قراره النهائي برفض الفكرة الحديثة المطروحة. ثم يقدم اقتراحا للقاء آخر في وقت آخر، بهدف وضع خطة جديدة تساعد هذا المزارع على تبني الأفكار الجديدة والحديثة المطروحة. هذا هو الريف بقوالب من العادات والممارسات، يصعب تغييرها.

n مع المجتمع الريفي الرهان دوما على عامل الزمن كضرورة علمية، لتبني الأفكار الجديدة والتغيير.

n في الريف يرث الأبناء كل شيء: الممتلكات، والأحقاد، والمشاكل، والمهارات، والنظم الزراعية والمائية والبيئية، وحتى الأمراض والجهل والفقر. في الريف تطفو المشاهد والاستنتاجات. ثم تأتي القرارات والتوجهات الموروثة، والاجتهادات، لتكملة مشوار المشاكل وطقوسها وهيئتها وعمق نتائجها.

n وجدت أكثر من تصرف يسيء للآباء وهم في قبورهم. أذكر بعضها البسيط كدرس وعبرة. فعلى سبيل المثال: يستحضر الأبناء بعض مشاكل تم وضع حد لها في حياة الأب، لكن يثيرها الأبناء من جديد. إن تحريك القضايا واستدعاء ماضيها، بمثابة اتهام للأب بعدم حسن التصرف. أليست هذه إساءة للأب وهو ميت؟ ثم يأتي الدعاء السلبي على الآباء في قبورهم من الأطراف المتضررة، بدلا من الترحم عليهم. وهناك أمثلة أخرى أشد قسوة، تجاهلها فضيلة. معظم المشاكل التي عشت وعايشت في الريف لا تتغير، تجدد نفسها مع كل جيل.

n هناك حالات مات الآباء دون حل المشكلة، فورثها الأبناء، ثم يواصلون مشوار الخلاف والتنافر. وهذا النوع من المشاكل مستدام، يقوده جهل خفي يحمله العقل ويعصب عليه. بدليل أن البعض يحمل أعلى الدرجات العلمية، لكنه يعيش بعقلية ريفية متزمتة، منغلقة، مشحونة بتصورات عفى عليها الزمن، مع ظروفها التي لم تعد صالحة لحياة اليوم وظروفه الحضارية. يتصرف الأبناء بطريقة تسيء لآبائهم وهم في قبورهم. يقودها فكر لا يرى إلا نفسه.

n هناك من يسيئون لآبائهم في قبورهم عن طريق السمعة السيئة التي يخلقونها لأنفسهم. فيأتي اللوم على الآباء. يبرر الناس ذلك السوء بقلة تربية الآباء للأبناء. لماذا يسعى هؤلاء الأبناء لتحقيق الإساءة لآبائهم وهم أموات من خلال هذه السمعة السيئة التي يثيرونها بأفعالهم وتصرفاتهم السلبية؟ في الريف يرونها مرجلة.

n البعض يتجاوز على الآخرين عن طريق استغلال طيبتهم وتسامحهم. وتجد هذا الصنف من الأبناء يعيش حالة تنمر وفوقية. فهم لا يضربون بعصاتهم ولكن يستغلون عصاة الأنظمة لضرب الطرف الآخر، تنكيلا وشكاوى وتنغيصا وتجاوزات. فيأتي الدعاء على الأبناء وعلى آبائهم وهم أموات. أليست هذه إساءة يمكن تجنبها بالتسامح والمحبة؟

n البعض يتعدى على حقوق الآخرين قولا وفعلا. وهذا فعل يراه البعض مؤشرا رجوليا. وتجد الطرف الآخر أمام تسامحه أو قلة حيلته يدعو الله عليهم على ظهر الأرض وعلى آبائهم الموتى في بطن الأرض. عشت مثل هذه الحالات، وهناك حالات أخرى تتعاظم مرارتها وألمها في نفسي.

n لا أقدم هنا موعظة ولكن التنويه بخطورة التصرفات السلبية على الآباء في قبورهم. السؤال الأهم: كيف يسيء الآباء حتى وهم في قبورهم إلى أبنائهم على وجه الأرض؟ أترك لكم التفكير في الأمر.

twitter@DrAlghamdiMH