شاع في الآونة الخيرة مصطلح «التشوه أو التلوث البصري والأمر سيان، وإن كان التلوث أطول مدى وأعمق أثرا». ومن المعروف سلفا أن شيوع المصطلح يدل على وجود الظاهرة. الحديث عن التشوه البصري هو حديث في المقام الأول عن المشهد العمراني شكلا ومضمونا وسلوكا.
إن آلية إنتاج الشكل العمراني عملية معقدة، وبالتالي فإن تشخيص مواطن التشوه لا تبدو بتلك البساطة كما قد يتبادر إلى الذهن. التشوه البصري يأتي على درجات، بدءا بأبسط ما تقع عليه العين أثناء مرورك في أي شارع، أو مشيك عبر أي طريق في النسيج العمراني، مرورا بمنظر مخلفات أنقاض البناء، إلى التدخلات (العشوائية في معظمها) في كل بناء، إلى مظاهر التنافر بين كل متجاورين في كل شيء، ولكل تصوره في هذا المجال، وصولا إلى الصورة العامة للمدينة في سياقها الطبيعي والجغرافي.
يحدث التشوه البصري نتيجة لتضارب المصالح بين المنخرطين في عملية إنتاج المشهد العمراني ذاته، مهما كان نوع البناء وطبيعة المشهد. فترى ساكنا وقد أضاف على سور بيته جدارا آخر من الشنكو، وترى ساكنا آخر قد اعترض رصيف المشاة -عن غير حق طبعا- للوصول إلى كراج السيارة داخل السور، فيما عمد جار ثالث إلى إضافة ملحق أخل بالمشهد البصري وهكذا. إن حرية التصرف في ملكية الشخصية أمر مشروع لكن العيش في مجتمع متجاور تفرض الالتزام بالحد الأدنى من الذائقة البصرية.
هذا فيما يتعلق بالأفراد. غير أن المؤسسات الحكومية (خصوصا الأمانات والبلديات) لها دور مباشر في التغلب على التشوه البصري. والحل هو من البساطة بحيث إنه لا يتطلب سوى ترتيب سلم الأولويات في التنمية العمرانية للمدينة. وبدءا من مداخل المدن هناك ما يمكن تسميته بالخلل في تنظيم وتوزيع الأنشطة التجارية. فترى كمثال على ذلك تلك المدينة السياحية تستقبل سياحها بمحلات وورش وخدمات السيارات، فيما يواجهك سوق الحراج عند مدخل مدينة أخرى، وفي مدينة ثالثة انقرض سوق الخضار فيها نتيجة لكثرة تنقله وهو ما أثقل كاهل الباعة والمشترين أيضا، لدرجة أن سوق الخضار التقليدي باعتباره جزءا من نسيج المدينة التقليدية قد بدأ يتلاشى عن المشهد المعاصر للمدينة حاليا، إن لم يكن قد انقرض أصلا. صحيح أن عملية تنظيم وتوزيع الأنشطة التجارية في المدينة لا تتم بين عشية وضحاها ولكنها يجب أن تأخذ في الاعتبار مصالح كل من الباعة والمشترين على حد سواء، ناهيك عن أن تتكامل مع النمو الطبيعي للمدينة ذاتها.
في التصميم الحضري هناك ما يعرف بمصطلح «تأثيث الشوارع والطرقات»، وهو يعني ببساطة التعامل مع الطرقات والأرصفة باعتبارها أمكنة ومساحات تستضيف بشرا يتوجب فرشها بالأثاث من مقاعد ثابتة وسلال المهملات وأنماط أرصفة وإشارات مرورية ومحابس للمياه ونقاط توزيع وأعمدة كهرباء وغير ذلك. هذه هي إكسسوارات المدن. ويبدو مما نراه ونشاهده في معظم مدننا اليوم أن كل منها نظرا لمرجعيته الحكومية، يعمل وفق نظامه الخاص، بمعزل تام عن الجهات الأخرى، وهو ما يساهم بالضرورة في تشويه المشهد البصري للمدينة.
ويبقى التشجير عنصرا أساسيا في الحد من التشوه البصري أو مساهمة فيه. بداية يجب التنبيه إلى البيئة الصحراوية للمدينة العربية عموما، التي لا تنبت الأشجار الوارفة الظلال، ناهيك عن شح مصادر الماء لسقيها. غير أن الإمكانات المتاحة من كوادر بشرية ومقدرة اقتصادية كفيل بالتغلب على هذا الجانب. وبالرغم من أن النخلة رمز وطني نعتز به، إلا أن كثيرا من أشجار النخيل المستزرعة في كثير من المدن، سرعان ما تذبل، وهو ما يطرح تساؤلات عدة عن آلية التشجير والري والوسائل المتبعة في ذلك، وإلا تكون علاقة المدينة بالتشجير حدثا احتفاليا سنويا كما جرى العرف.
المشهد البصري هو الواجهة الحضارية للإنسان، وكل مَن وطأت قدمه أرض المدينة قادر على المساهمة فيه بإيجابية. فهل نحن فاعلون؟.
Hanih@iau.edu.sa
إن آلية إنتاج الشكل العمراني عملية معقدة، وبالتالي فإن تشخيص مواطن التشوه لا تبدو بتلك البساطة كما قد يتبادر إلى الذهن. التشوه البصري يأتي على درجات، بدءا بأبسط ما تقع عليه العين أثناء مرورك في أي شارع، أو مشيك عبر أي طريق في النسيج العمراني، مرورا بمنظر مخلفات أنقاض البناء، إلى التدخلات (العشوائية في معظمها) في كل بناء، إلى مظاهر التنافر بين كل متجاورين في كل شيء، ولكل تصوره في هذا المجال، وصولا إلى الصورة العامة للمدينة في سياقها الطبيعي والجغرافي.
يحدث التشوه البصري نتيجة لتضارب المصالح بين المنخرطين في عملية إنتاج المشهد العمراني ذاته، مهما كان نوع البناء وطبيعة المشهد. فترى ساكنا وقد أضاف على سور بيته جدارا آخر من الشنكو، وترى ساكنا آخر قد اعترض رصيف المشاة -عن غير حق طبعا- للوصول إلى كراج السيارة داخل السور، فيما عمد جار ثالث إلى إضافة ملحق أخل بالمشهد البصري وهكذا. إن حرية التصرف في ملكية الشخصية أمر مشروع لكن العيش في مجتمع متجاور تفرض الالتزام بالحد الأدنى من الذائقة البصرية.
هذا فيما يتعلق بالأفراد. غير أن المؤسسات الحكومية (خصوصا الأمانات والبلديات) لها دور مباشر في التغلب على التشوه البصري. والحل هو من البساطة بحيث إنه لا يتطلب سوى ترتيب سلم الأولويات في التنمية العمرانية للمدينة. وبدءا من مداخل المدن هناك ما يمكن تسميته بالخلل في تنظيم وتوزيع الأنشطة التجارية. فترى كمثال على ذلك تلك المدينة السياحية تستقبل سياحها بمحلات وورش وخدمات السيارات، فيما يواجهك سوق الحراج عند مدخل مدينة أخرى، وفي مدينة ثالثة انقرض سوق الخضار فيها نتيجة لكثرة تنقله وهو ما أثقل كاهل الباعة والمشترين أيضا، لدرجة أن سوق الخضار التقليدي باعتباره جزءا من نسيج المدينة التقليدية قد بدأ يتلاشى عن المشهد المعاصر للمدينة حاليا، إن لم يكن قد انقرض أصلا. صحيح أن عملية تنظيم وتوزيع الأنشطة التجارية في المدينة لا تتم بين عشية وضحاها ولكنها يجب أن تأخذ في الاعتبار مصالح كل من الباعة والمشترين على حد سواء، ناهيك عن أن تتكامل مع النمو الطبيعي للمدينة ذاتها.
في التصميم الحضري هناك ما يعرف بمصطلح «تأثيث الشوارع والطرقات»، وهو يعني ببساطة التعامل مع الطرقات والأرصفة باعتبارها أمكنة ومساحات تستضيف بشرا يتوجب فرشها بالأثاث من مقاعد ثابتة وسلال المهملات وأنماط أرصفة وإشارات مرورية ومحابس للمياه ونقاط توزيع وأعمدة كهرباء وغير ذلك. هذه هي إكسسوارات المدن. ويبدو مما نراه ونشاهده في معظم مدننا اليوم أن كل منها نظرا لمرجعيته الحكومية، يعمل وفق نظامه الخاص، بمعزل تام عن الجهات الأخرى، وهو ما يساهم بالضرورة في تشويه المشهد البصري للمدينة.
ويبقى التشجير عنصرا أساسيا في الحد من التشوه البصري أو مساهمة فيه. بداية يجب التنبيه إلى البيئة الصحراوية للمدينة العربية عموما، التي لا تنبت الأشجار الوارفة الظلال، ناهيك عن شح مصادر الماء لسقيها. غير أن الإمكانات المتاحة من كوادر بشرية ومقدرة اقتصادية كفيل بالتغلب على هذا الجانب. وبالرغم من أن النخلة رمز وطني نعتز به، إلا أن كثيرا من أشجار النخيل المستزرعة في كثير من المدن، سرعان ما تذبل، وهو ما يطرح تساؤلات عدة عن آلية التشجير والري والوسائل المتبعة في ذلك، وإلا تكون علاقة المدينة بالتشجير حدثا احتفاليا سنويا كما جرى العرف.
المشهد البصري هو الواجهة الحضارية للإنسان، وكل مَن وطأت قدمه أرض المدينة قادر على المساهمة فيه بإيجابية. فهل نحن فاعلون؟.
Hanih@iau.edu.sa