أ. د. هاني القحطاني

نظمت مطلع هذا الأسبوع أمانة الأحساء بالتعاون مع الهيئة السعودية للمهندسين ورشة عمل بعنوان «المحافظة على التراث العمراني» بمقر الأمانة بالهفوف. ما تم طرحه من عناوين، وما تم تبادله من أفكار، وما تخلل الورشة من مداخلات، وما صاحب ذلك من فعاليات ارتقى بمستوى الحدث إلى ما هو أكثر بكثير من مجرد ورشة عمل. لقد كان اللقاء - بإجماع الحضور- يرتقي إلى مؤتمر أو ندوة لمدة زمنية أطول، وبورش عمل أكثر، وباهتمام إعلامي أشمل.

كانت مواضيع الورشة أشبه بفسيفساء تراثية. كانت هناك عشر محاضرات تفرد كل منها في موضوعه. وقد شملت هذه المواضيع مختلف جوانب التراث من بابه إلى محرابه ومن مختلف ألوان الطيف العمراني: من أكاديميين وباحثين في التراث، ومن وجهاز إداري، ومعماريين، ومقاولين، وكان هناك أيضا اهتمام من بعض رجال أعمال المنطقة. وقد صاحب ذلك معرض بأهم المشاريع التراثية بالمنطقة. وبطبيعة الحال فإن منطقة الأحساء قد نالت الاهتمام الأكبر بمواضيع المحاضرين، وهذا أمر بديهي.

في مناسبة كهذه يجد الكاتب نفسه بين خيارين كل منهما أعلى كعبا وسناما. عن التراث نتحدث أم عن حاضنته: الأحساء؟. لنتحدث عنهما سوية. فالاثنان لا يفترقان. يكفي الأحساء من التراث اسمها، بدءا من أصله اللغوي مرورا بتاريخها المشار إليه في كثير من كلاسيكيات التاريخ العربي، ومزارعها، وعيونها التي جعلت منها ربما الواحة الأشهر في الجزيرة العربية، وصولا وليس آخرا إلى مشروع الري الذي زين لعقد كامل فئة الخمسة ريالات في عهد الملك فيصل رحمه الله، مرورا بجبل القارة - والذي ما زال ينتظر الكثير - وانتهاء بالتراث العمراني المتبقي في الواحة بمختلف تجلياته.

النخلة، إنها أكثر من مجرد شجرة صحراوية مثمرة. إنها إرث حضاري. وبدءا من شعار أمانة الأحساء نفسها إلى مزارع النخيل التي أضفت على الواحة هويتها، تشعر بالحضور الفطري المهيمن للنخيل على واحة الأحساء. هذا سر تفردها. وعندما اختيرت الأحساء كمنطقة تراثية من قبل اليونسكو مؤخرا كان للنخيل ومزارعها وعيونها الكلمة الفصل في ذلك. وبالرغم من الزحف العمراني على المزارع إلا أن هذه الأخيرة ما زالت محتفظة بنخيلها. ويبقى التحدي الأكبر الذي يواجه أمانة الأحساء هو الحفاظ على التوازن الدقيق بين متطلبات التنمية العمرانية التي لا تنتهي، وبين هذا النسيج الأخضر الذي توارثته الأحساء جيلا بعد جيل. إنها معادلة صعبة، ولكن النجاحات الكبرى في الحياة تولد دوما من رحم التحديات.

هناك بعد آخر تستمد منه الأحساء هويتها العمرانية. غير أنه هذه المرة على طرف نقيض من الماضي، إنه النفط، فواحة الأحساء محاطة من كل حدب وصوب بأكبر تجمع لحقول النفط في العالم. وإذا ما أخذ الموقع الجغرافي لواحة الأحساء في الاعتبار وقربها من دول الخليج العربي ودوله، لأدركنا ما ينتظر الأحساء من تنمية عمرانية واعدة تأخذ من تراث الماضي وتطلعات المستقبل ركيزتين أساسيتين لها. النخيل، المزارع، الصحراء، المياه الجوفية، النفط، الخليج العربي معطيات كفيلة بأن تجعل من الأحساء مثالا يحتذى في التنمية.

وعلى أية حال، يبقى التراث العمراني مكتسبا ثقافيا يخضع لمعطيات العصر وطريقة تعامل الناس مع واقعهم الذي يعيشون فيه. إن الفهم الواسع لأي ظاهرة هو حجر الأساس للتعامل مع إفرازاتها. وفي تغريدة سابقة لأحد المهتمين بالتراث العمراني إن الاهتمام بالتراث العمراني وإعادة إحيائه لا يعني أن يتحول كل بيت إلى جنادرية، في إشارة واضحة إلى أن التراث هو متغير ثقافي يتأثر بالواقع اليومي لكل ما يحيط به من تفاصيل على مختلف الأصعدة.

تبقى ورشة العمل هذه مقياسا مباشرا لطموحات أمانة الأحساء وقدرة أبنائها على إدراك التحدي التنموي الذي تواجهه المحافظة في كافة أوجه التنمية العمرانية. هنيئا للأحساء بأبنائها.

Hanih@iau.edu.sa