في صغري، نظمت قصيدة بالفصحى، وألقيتها في حفل أقيم بالدمام، وعلى مائدة العشاء كان عن يميني الأستاذ نجيب الزامل، وعن يساري الشيخ محمد الغول، فجاملني نجيب -رحمه الله- بأخلاقه العالية المعهودة ومدح القصيدة، ثم التفت إلي الشيخ الغول -رحمه الله-، فقال لي: شعرك يشبه قصائد الفقهاء! ففهمت منه الثناء، فانتفخ رأسي من الفخر، وتخيلت نفسي أحد أصحاب المعلقات! والكارثة أنني الوحيد بينهما، الذي يلبس (البشت). ولم تدم فرحتي طويلا، لأنني مددت يدي إلى السلطة، التي أمامي ورأيت فيها ما يشبه الفراولة فوضعتها في فمي فإذا بمثل نار البركان تخرج من أنفي وعيني وأذني! وقد تيقنت أنها (فلفل) من النوع النووي!. انتبه لي نجيب فقدم لي كوب ماء فزادت الحرارة في حلقي حتى أشرفت على الموت، كل هذا وأنا أتظاهر بأني طبيعي، وأنا أرى المكان كله يدور بي.
بعد سنوات من هذه الليلة، اكتشفت أن الشيخ الغول لم يمدح قصيدتي تلك الليلة، وعلمت أن شعر الفقهاء يخلو من الشعر، ومن الصور البيانية والبلاغية، فغصت في ثيابي من الخجل. ولست أتكلم عن عدم أهمية المنظومات الفقهية، بل كلامي عن جزالة الشعر وتذوقه.
بعد أن عقدت الصحبة مع أبي الطيب، علمت أن الشعر الرصين في واد، ونحن في واد آخر. لأبي الطيب الحق بأن يفخر ويقول:
ما نال أهل الجاهلية كلهم ** شعري، ولا سمعت بسحري بابل
ولم يكن أبو الطيب يخضع للمقارنات، بل يرى نفسه أعظم من أن يشبهها أحد، أو يعلوها أحد، فهو فوق كل أدوات التشبيه:
أمط عنك تشبيهي (بما) و(كأنه) ** فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
في نظري أن أبا الطيب قد ألين له الشعر مثلما ألين الحديد لداود -عليه السلام-. كان مجلس سيف الدولة يغص بالشعراء والأدباء العظام، ولم يكن أبو الطيب يهاب أحدا منهم، وقد كان يتحداهم بأبيات من فوره، لو اجتمع منهم عشرات على أن يأتوا بمثلها في أيام ما استطاعوا، وهذه بعضها، كلها أفعال أمر:
أقل أنل أقطع أحمل عل سل أعد ** زد هش بش تفضل أدن سر صل
وهذا البيت بحاجة إلى تفكيك أفعاله، وشرحها. (إيتوني) بمثل أبي الطيب في عمق وصفه، ودقة تصويره:
أتراها لكثرة العشاق ** تحسب الدمع خلقة في المآقي؟!
كيف ترثي التي ترى كل جفن ** راءها غير جفنها غير راقي؟!
هي ترى العشاق من حولها كلهم يبكون، هياما بها، فتظن أن دموعهم قد خلقت في جفونهم، فلا تهتز لبكائهم، ولا ترحمهم. وكيف ترحمهم، وهي ترى كل الجفون باكية إلا جفنها؟!.
ومن جميل وصفه الدقيق، لمعاناته من جراء السهر حزنا على فقد الأحبة:
أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب ** وردوا رقادي فهو لحظ الحبائب
فإن نهاري ليلة مدلهمة ** على مقلة من بعدكم في غياهب
بعيدة ما بين الجفون كأنما ** عقدتم أعالي كل هدب بحاجب
ومن طرائف ما وقع لي عندما كنت أدرس مقررا يتحدث عن الحضارة الإسلامية في إحدى الجامعات، أنني استشهدت بالبيت الأخير للتدليل على بلاغة المتنبي، فإذا طالب أمامي ينفجر بالضحك! فلما سألته عن السبب قال لي: أنت تقول إن المتنبي وصف تباعد جفونه كأن الرموش مربوطة في الحواجب، فأنا تذكرت (توم وجيري) في أفلام الكرتون، وأخرج لي صورة من جواله، فضجت القاعة بالضحك.
فلما رأيتها ندمت على شرحي، وحزنت على حالي وحال المتنبي!.
إلى اللقاء..
mhajjad@gmail.com
بعد سنوات من هذه الليلة، اكتشفت أن الشيخ الغول لم يمدح قصيدتي تلك الليلة، وعلمت أن شعر الفقهاء يخلو من الشعر، ومن الصور البيانية والبلاغية، فغصت في ثيابي من الخجل. ولست أتكلم عن عدم أهمية المنظومات الفقهية، بل كلامي عن جزالة الشعر وتذوقه.
بعد أن عقدت الصحبة مع أبي الطيب، علمت أن الشعر الرصين في واد، ونحن في واد آخر. لأبي الطيب الحق بأن يفخر ويقول:
ما نال أهل الجاهلية كلهم ** شعري، ولا سمعت بسحري بابل
ولم يكن أبو الطيب يخضع للمقارنات، بل يرى نفسه أعظم من أن يشبهها أحد، أو يعلوها أحد، فهو فوق كل أدوات التشبيه:
أمط عنك تشبيهي (بما) و(كأنه) ** فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
في نظري أن أبا الطيب قد ألين له الشعر مثلما ألين الحديد لداود -عليه السلام-. كان مجلس سيف الدولة يغص بالشعراء والأدباء العظام، ولم يكن أبو الطيب يهاب أحدا منهم، وقد كان يتحداهم بأبيات من فوره، لو اجتمع منهم عشرات على أن يأتوا بمثلها في أيام ما استطاعوا، وهذه بعضها، كلها أفعال أمر:
أقل أنل أقطع أحمل عل سل أعد ** زد هش بش تفضل أدن سر صل
وهذا البيت بحاجة إلى تفكيك أفعاله، وشرحها. (إيتوني) بمثل أبي الطيب في عمق وصفه، ودقة تصويره:
أتراها لكثرة العشاق ** تحسب الدمع خلقة في المآقي؟!
كيف ترثي التي ترى كل جفن ** راءها غير جفنها غير راقي؟!
هي ترى العشاق من حولها كلهم يبكون، هياما بها، فتظن أن دموعهم قد خلقت في جفونهم، فلا تهتز لبكائهم، ولا ترحمهم. وكيف ترحمهم، وهي ترى كل الجفون باكية إلا جفنها؟!.
ومن جميل وصفه الدقيق، لمعاناته من جراء السهر حزنا على فقد الأحبة:
أعيدوا صباحي فهو عند الكواعب ** وردوا رقادي فهو لحظ الحبائب
فإن نهاري ليلة مدلهمة ** على مقلة من بعدكم في غياهب
بعيدة ما بين الجفون كأنما ** عقدتم أعالي كل هدب بحاجب
ومن طرائف ما وقع لي عندما كنت أدرس مقررا يتحدث عن الحضارة الإسلامية في إحدى الجامعات، أنني استشهدت بالبيت الأخير للتدليل على بلاغة المتنبي، فإذا طالب أمامي ينفجر بالضحك! فلما سألته عن السبب قال لي: أنت تقول إن المتنبي وصف تباعد جفونه كأن الرموش مربوطة في الحواجب، فأنا تذكرت (توم وجيري) في أفلام الكرتون، وأخرج لي صورة من جواله، فضجت القاعة بالضحك.
فلما رأيتها ندمت على شرحي، وحزنت على حالي وحال المتنبي!.
إلى اللقاء..
mhajjad@gmail.com