محمد الحرز

لا أحد بإمكانه، مهما كانت ذاكرته قوية وحادة، أن يسترجع بوضوح تام، وبتفاصيل دقيقة، كل الأشخاص الذين وضعتهم الحياة في طريقه، وتقاطعت حكاياته مع حكاياتهم، إما كانوا عبورا في هذا الطريق، أو كانوا مقيمين فيه أو كانوا بين بين.

سنرى أن الكثير منهم يقف على أبواب قلعة النسيان الضخمة، والكثير أيضا منهم يختفي في دهاليزها الطويلة، ويذوب كالأسيد في ماء عتمتها الحالكة، والكثير منهم يلمع مثل البرق في سماء الذاكرة.

لكنه سرعان ما يختفي، إذ تظل آثار اللمعان تربك شريط التذكر في دورته اليومية المعتادة. وكأن جزءا من أرواحهم أو أجسادهم تركت عنوة، في مكان ما، لا عمال الذاكرة يستطيعون الوصول إليها، ثم يسلمونها إلى دهاليز النسيان، ولا هي (هذه الأجزاء) قادرة على التجلي والسطوع والثبات أمام عواصف النسيان.

ما يتبقى منها في حقيقة الأمر غير تلك الصورة التي تنعكس على مرايا مهشمة، وأنت تنظر إليها من بعيد، ومن زاوية لا ترى منها سوى جزء بسيط مشوه، لا يعكس كامل الصورة، يظهر ويختفي في نفس الوقت، وهذا ما يمكن أن نسميه اللعبة الكبرى للذاكرة.

التحدي يكمن هنا، بالخصوص عند الكاتب المبدع عندما يحاول استرجاع الصورة كاملة باعتبارها الماضي الشخصي.

لكنه استرجاع يتلاعب بالزمن والأحداث والأمكنة بحيث تحضر هذه الصورة في كتابات المبدع نفسه بوصفها سلسلة من الذكريات تمثل الماضي لكنها ليست الماضي نفسه. الأمر ينطبق على الذاكرة الاجتماعية، وليست الفردية فقط. فماضي الجماعة تخترعه الذاكرة اختراعا حسب مواصفات الحاضر: أهدافه وغاياته ووظائفه.

عموما لا نهدف في هذه المقالة إلى تبيان هذه العلاقة بين الماضي والذاكرة، فالكلام فيها يطول والنظريات كثيرة ومتداخلة بين العلوم الإنسانية وطب الأعصاب وآراء الفلاسفة والأدباء.

ما نهدف إليه هو إعطاء نماذج وأمثلة عن مثل هؤلاء الأشخاص الذين تصادفهم في حياتك، ثم يعلقون في الذاكرة، ويشكلون لاحقا في مرحلة ما من عمرك، حافزا على عمل ما دائما ما تراه استثنائيا ومفصليا.

في طفولتي شاهدت رجلا ميتا ممددا على المغتسل. حدث ذلك في يوم صائف، كنت عائدا من مدرستي ظهرا، ويومها كنت في الصف الخامس الابتدائي، وذهابي إلى المدرسة وعودتي منها، لا بد لي من المرور على مسجد الحي الذي أسكنه (حي الكوت بالهفوف) والذي لا يبعد عن منزلنا مسافة مائتي متر، وكان المغتسل ملاصقا لمكان وضوء المصلين، وعندما رأيت تزاحم الرجال عند بابه، كنت فضوليا بحيث تسللت من بينهم، لأرى ما يحدث، فجأة وقعت عيناي على ذلك الممدد قبل أن يجهز للغسل، وعرفت أنه خادم المسجد الذي أراه يوميا ينظف ويقيم الأذان.

سرعان ما شكل هذا الوجه في لحظة حيويته ولحظة هموده مفارقة محفزة على التساؤل عند الطفل الذي كنته. ربما نسيت تفاصيل اللحظة، لكني لم أنس تفاصيل الوجه.

هل لأنه مرتبط بلحظة الموت؟! ربما يكون ذلك.

جوزيه ساراماغو الروائي البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للآداب يتطرق في سيرته الذاتية إلى حياة جيرانه وأفراد أسرهم، فمن الأشخاص الذين علقت به ذاكرته، رجل قريب لأسرة جيرانه أعمى كان يزورهم بين فينة وأخرى، يصفه كالتالي «.. أما عيناه فكانتا شبه بيضاوين. لكن أكثر ما يضايقني في رائحته، رائحة طعام بارد وحزين، رائحة ملابس سيئة الغسيل، أحاسيس بقيت في ذاكرتي محفورة وارتبطت بالعمى، وربما استطعت أن أعكسها في روايتي العمى».

@MohammedAlHerz