أي جهة من خلالها يمكن الحديث عن الأثر، الذي تتركه السياسة على الأدب؟ فالموضوع له مداخل كثيرة، وزوايا متعددة في النظر، والطريقة في التناول، والظروف المواتية، التي تسمح لهذا الأثر بالحدوث.
فأي سياسة نعني وأي أدب؟ وما حدود اتصالهما، وحدود افتراقهما؟.
في الكثير من الدراسات والبحوث جرى تسييس الأدب وتأديب السياسة على اعتبار المؤثرات المتبادلة فيما بينهما، وعلى اعتبار الارتباط العضوي، الذي يجعل كلا منهما يرسم معالم الآخر من العمق.
وإذا كان الأمر هنا يتعلق بالسياسيين والأدباء، فالحديث عنه له سياقه المعروف، وله تاريخه المدروس، فعبر تاريخ العلاقة بينهما، لا ترى سياسيا (ملكا أو رئيسا أو وزيرا) مشهورا تخلوه حياته أو صداقاته من أديب له سمعته ومكانته، فالتاريخ العربي القديم يزخر بالكثير من القصص، التي تشير إلى تلك العلاقة، حيث يكفي النظر إلى تاريخ مجالس الملوك والوزراء ورجالات الدول، ليتضح لك أن أكثر ندمائهم مثقفون وأدباء وشعراء، بل كان لبعضهم أثر مباشر على قرارات سياسية ارتبطت بهذا الحاكم أو ذاك.
لكن الأمر في هذه المقالة لا يرتبط بهذا الجانب، -على أهميته التي لا تخفى على أحد- بيد أني سأناقش جانبا آخر من مسألة العلاقة تلك، من زاوية خطوط التماس التي صنعها الاحتكاك بين حركة تطور الشعر العربي من جهة، والتطور السياسي من جهة أخرى. لأجل الوصول إلى نتيجة مفادها: أن الاستقرار السياسي من عدمه له عواقب تتصل بالدرجة الأولى بالحياة الإبداعية من تقاليد وعادات وطقوس، عادة ما تكون ملزمة، سواء كانت هذه العواقب سلبية من جهة عدم الاستقرار، أو إيجابية من جهة الاستقرار.
وسأضرب بمثالين أحدهما من التاريخ القديم والآخر من التاريخ المعاصر.
عندما أسس أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي مدينة بغداد (الزوراء في حينها) سنة 145 للهجرة، كانت مدينة البصرة والكوفة وبجانبهما دمشق محط ركاب العلماء والأدباء، ومحط إشعاع علمي ترسخ في الثقافة العربية الإسلامية.
لكن ما دخلنا القرن الثالث الهجري حتى سحبت بغداد البساط من تلك المدن، وأصبحت مدينة جاذبة لكل شاعر أو أديب أو عالم طامح للشهرة والمكانة والغنى. فهذا أبونواس يترك البصرة كما سبقه إلى ذلك الحسين بن الضحاك، الذي أصبح نديم الأمين، «وهذا الجاحظ يلتحق بالمدينة نفسها منذ السنوات الأولى من حكم المأمون».
لكن لا هذه الجاذبية ولا الرغبة في الحصول على امتيازاتها تفسر هذا الجاذبية عند الكثير منهم، فمثلا كما يلاحظ بحق جمال الدين بن الشيخ في كتابه «الشعرية العربية» أن أبا تمام كانت مصر ودمشق هنا محطتا شهرته الأولى قبل أن يتوجه إلى بغداد، وكذلك فعل البحتري. كذلك كان الشاعر ديك الجن، الذي لم تغريه بغداد وظل ملازما حمص، وابن المعذل الذي ظل ملازما للبصرة.
فهل هناك أسباب أخرى تفسر هذه الجاذبية؟.
يجيب المؤلف: من خلال نظام سماه «نظام الاحتراف»، ما هو؟
هو شبكة من العلاقات المعقدة بين الكتاب تؤسس لتقاليدها بحثا عن مشروعيتها عند الطبقات المكونة لنظام الحكم من طبقة الوزراء، أو الحجاب، أو التجار والملاك. لذلك «اكتسب بلاط العباسيين دقة في التنظيم والهرمية وصرامة الألقاب والصفات ودقة الاحتفالية»، وهذه جميعها لم تكن معروفة في السابق.
بحيث أصبح هذا التنظيم شرطا للوصول للحظوة والشهرة، وأيضا للتحدي والمبارزة بين الأدباء والشعراء.
ورغم ما شاب القرن الثالث من ثورات وحروب إلا أن الاستقرار السياسي للدولة العباسية في أوج مراحلها أتاح الفرصة لوجود تقاليد أدبية ترسخ الكثير منها إلى وقتنا الحاضر.
أما المثال الآخر، فيمكن النظر إليه من خلال صورة المتنبي كصورة معيارية يقاس عليها كل ما يقع في العالم العربي من انتكاسات وهزائم. انطلاقا من هذه، وجدنا الحركة الرومانسية تستحضر صورة البطل المعبر عن روح أمته، فهذا الأخطل الصغير يقول في مطلع قصيدته:
نفيتَ عنك العلى والظرف والأدبا ... وإن خلقت لها - إن لم تزر حلبا.
وهكذا في كل مرحلة سياسية يمر بها العرب تتجدد صورة المتنبي وفق ما يمليه الوجدان العربي ومتطلباته. ويمكن التفصيل في كل مرحلة إذا ما أردنا ذلك، فالقول فيها كثير.
@MohammedAlHerz
فأي سياسة نعني وأي أدب؟ وما حدود اتصالهما، وحدود افتراقهما؟.
في الكثير من الدراسات والبحوث جرى تسييس الأدب وتأديب السياسة على اعتبار المؤثرات المتبادلة فيما بينهما، وعلى اعتبار الارتباط العضوي، الذي يجعل كلا منهما يرسم معالم الآخر من العمق.
وإذا كان الأمر هنا يتعلق بالسياسيين والأدباء، فالحديث عنه له سياقه المعروف، وله تاريخه المدروس، فعبر تاريخ العلاقة بينهما، لا ترى سياسيا (ملكا أو رئيسا أو وزيرا) مشهورا تخلوه حياته أو صداقاته من أديب له سمعته ومكانته، فالتاريخ العربي القديم يزخر بالكثير من القصص، التي تشير إلى تلك العلاقة، حيث يكفي النظر إلى تاريخ مجالس الملوك والوزراء ورجالات الدول، ليتضح لك أن أكثر ندمائهم مثقفون وأدباء وشعراء، بل كان لبعضهم أثر مباشر على قرارات سياسية ارتبطت بهذا الحاكم أو ذاك.
لكن الأمر في هذه المقالة لا يرتبط بهذا الجانب، -على أهميته التي لا تخفى على أحد- بيد أني سأناقش جانبا آخر من مسألة العلاقة تلك، من زاوية خطوط التماس التي صنعها الاحتكاك بين حركة تطور الشعر العربي من جهة، والتطور السياسي من جهة أخرى. لأجل الوصول إلى نتيجة مفادها: أن الاستقرار السياسي من عدمه له عواقب تتصل بالدرجة الأولى بالحياة الإبداعية من تقاليد وعادات وطقوس، عادة ما تكون ملزمة، سواء كانت هذه العواقب سلبية من جهة عدم الاستقرار، أو إيجابية من جهة الاستقرار.
وسأضرب بمثالين أحدهما من التاريخ القديم والآخر من التاريخ المعاصر.
عندما أسس أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي مدينة بغداد (الزوراء في حينها) سنة 145 للهجرة، كانت مدينة البصرة والكوفة وبجانبهما دمشق محط ركاب العلماء والأدباء، ومحط إشعاع علمي ترسخ في الثقافة العربية الإسلامية.
لكن ما دخلنا القرن الثالث الهجري حتى سحبت بغداد البساط من تلك المدن، وأصبحت مدينة جاذبة لكل شاعر أو أديب أو عالم طامح للشهرة والمكانة والغنى. فهذا أبونواس يترك البصرة كما سبقه إلى ذلك الحسين بن الضحاك، الذي أصبح نديم الأمين، «وهذا الجاحظ يلتحق بالمدينة نفسها منذ السنوات الأولى من حكم المأمون».
لكن لا هذه الجاذبية ولا الرغبة في الحصول على امتيازاتها تفسر هذا الجاذبية عند الكثير منهم، فمثلا كما يلاحظ بحق جمال الدين بن الشيخ في كتابه «الشعرية العربية» أن أبا تمام كانت مصر ودمشق هنا محطتا شهرته الأولى قبل أن يتوجه إلى بغداد، وكذلك فعل البحتري. كذلك كان الشاعر ديك الجن، الذي لم تغريه بغداد وظل ملازما حمص، وابن المعذل الذي ظل ملازما للبصرة.
فهل هناك أسباب أخرى تفسر هذه الجاذبية؟.
يجيب المؤلف: من خلال نظام سماه «نظام الاحتراف»، ما هو؟
هو شبكة من العلاقات المعقدة بين الكتاب تؤسس لتقاليدها بحثا عن مشروعيتها عند الطبقات المكونة لنظام الحكم من طبقة الوزراء، أو الحجاب، أو التجار والملاك. لذلك «اكتسب بلاط العباسيين دقة في التنظيم والهرمية وصرامة الألقاب والصفات ودقة الاحتفالية»، وهذه جميعها لم تكن معروفة في السابق.
بحيث أصبح هذا التنظيم شرطا للوصول للحظوة والشهرة، وأيضا للتحدي والمبارزة بين الأدباء والشعراء.
ورغم ما شاب القرن الثالث من ثورات وحروب إلا أن الاستقرار السياسي للدولة العباسية في أوج مراحلها أتاح الفرصة لوجود تقاليد أدبية ترسخ الكثير منها إلى وقتنا الحاضر.
أما المثال الآخر، فيمكن النظر إليه من خلال صورة المتنبي كصورة معيارية يقاس عليها كل ما يقع في العالم العربي من انتكاسات وهزائم. انطلاقا من هذه، وجدنا الحركة الرومانسية تستحضر صورة البطل المعبر عن روح أمته، فهذا الأخطل الصغير يقول في مطلع قصيدته:
نفيتَ عنك العلى والظرف والأدبا ... وإن خلقت لها - إن لم تزر حلبا.
وهكذا في كل مرحلة سياسية يمر بها العرب تتجدد صورة المتنبي وفق ما يمليه الوجدان العربي ومتطلباته. ويمكن التفصيل في كل مرحلة إذا ما أردنا ذلك، فالقول فيها كثير.
@MohammedAlHerz