أ.د.هاني القحطاني

دأبنا في السنوات الأخيرة على سماع أيام خاصة، كل منها مخصص بنشاط معين، أو فعالية معينة، أو مناسبة ذات طبيعة محددة، مثل اليوم العالمي لمكافحة التدخين، أو يوم الأم، أو يوم العمال، أو أسبوع السلامة المرورية وغيرها من الأيام والأسابيع. وتسعى المؤسسات المعنية إلى الاهتمام بهذا اليوم وإعطائه الاهتمام الذي يستحق.

صادف يوم الرابع والعشرين من هذا الشهر يوم التعليم الدولي. ولنا في هذا التاريخ وقفة مطولة مع التعليم موضوعا ومحتوى وأداء. بداية، فقد مر هذا اليوم مرور الكرام على المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات بدون أي فعاليات تذكر.

والحديث عن التعليم يطول ويطول ويطول. إن أية ظاهرة هي جزء من أصلها. ومنذ البداية فقد ارتبط التعليم لدينا بفعل الأمر لا بفعل المضارع، بأفعال على شاكلة: ادرس، تعلم، اجتهد، ذاكر دروسك، شد حيلك، وهكذا. وقديما قيل العلم في الصغر كالنقش على الحجر.

نحن هنا أمام تساؤل هام: لماذا كان التعليم لدينا أمرا ينظر إليه على أنه واجب. لماذا لم يكن التعليم أمرا مستحبا لدينا؟ لماذا لم يكن التعليم لدينا سلوكا فطريا ذاتيا نابعا من إحساس الفرد أولا بقيمة التعليم وفائدته، وأخيرا وليس آخرا بجماله. ألم يرد في القرآن الكريم قوله تعالى: «أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت» وقوله تعالى «وفي أنفسكم أفلا تبصرون». هذا سؤال ربما تقتضي الإجابه عنه البحث في حفريات الثقافة العربية والإسلامية لدينا، وهناك الكثير من الحبر المسال حول هذا الموضوع.

فيما مضى كانت الفلسفة أم العلوم، وهي تعني حرفيا حب المعرفة، ولنا أن نتخيل أية فائدة يجنيها المجتمع عندما تكون المعرفة حبا وترتقي إلى أن تكون شغفا لدى أفراده. لقد عرفنا في ثقافتنا فلاسفة كبارا. غير أن ربيع الفلسفة ذاك لم يكتب له أن يستمر في خضم النزاعات التي نشبت في النظرة للمعرفة الإنسانية بوجه عام وللفلسفات الأغريقية منها بوجه خاص. في الفلسفة والموقف منها، وفي تاريخها، وفي مآلاتها في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، جزء كبير من الجواب. ولعل الصراع الذي احتدم بين ابن رشد والغزالي في «تهافت الفلاسفة» و«تهافت التهافت» يلخص جانبا مهما من مسيرة حب العلم والمعرفة في مسيرتنا الحضارية والفكرية.

غير أن هذا ليس كل شيء. فالعصر اليوم عصر علوم تجريبية وتطبيقية ومعامل ومختبرات وتفاعل حي بين الطالب وموضوع علمه. إنه عصر زالت عنه الحواجز وأصبح العلم ذاته كمادة ومنتج وآليات مفتوحا على كل الأصعدة. التعلم اليوم مختلف تماما عما كان عليه فيما مضى. يطرح توفر المعلومة وسهولة الوصول إليها بضغطة زر أسئلة نوعية عن التعليم المراد توصيله وعن مضمونه وهدفه والفائدة منه. هل نتعلم حبا في المعرفة، أم نتعلم للحصول على درجة تعليمية، أم نتعلم للحصول على وظيفة، أم فقط لأن هذا هو الطريق المتبع لبلوغ الإنسان ذاته في حياته.

إن سؤال العلم والتعلم عميق عمق العلم ذاته. لقد تحول العلم والتعلم لدينا كما هو الحال في كثير من دول العالم آلى مسألة وظيفية تجند لها الدولة آلاف المنتسبين. وهذا أمر بديهي ومن سنن بناء الدول. غير أن تحولات العلم في الثقافات الأخرى ذاته ومنتجاته وإسهاماته في التنمية والرفاه والعيش الكريم، وما يطرح من تحديات علينا، قد حوله إلى مجرد أداء وظيفة ليس إلا. وبمرور الوقت أصبح التعليم محتوى وآليات وإنتاجا نظاما ميكانيكيا صرفا، بعيدا عن تطلعات المنتسبين إليه أو منتظريه. هذه هي الوظيفية. وحري بنا إعادة النظر فيها شكلا ومضمونا ليس في التعليم فقط بل في معظم جوانب الحياة.