د. فاطمة مصطفى رضا

لكل علم قصة تبدأ في مكان وزمان معينين، ثم ينمو ويتطور بناء على توجه المجتمع الذي يحتويه، محتفظا نوعا ما بخصوصيته الجغرافية والتاريخية والثقافية، وينتقل بين الحضارات وتقوم كل حضارة بإكمال هذا العلم بما يتماشى معها ويمثلها. يعتبر علم البصريات من علوم ما قبل التاريخ التي تطورت عند حضارة الإغريق ثم انتقل إلى المسلمين خلال عصورهم الذهبية وبعدها عاد إلى الغرب مرة أخرى ليأخذ تطوره منحنى آخر ويكمل فصول قصته. يعتبر علم المناظر العربي هو نتاج تطوير على علم المناظر الهلينستي الإغريقي، وبإمكاننا اعتبار علم المناظر الهلينستي هو مصدره الوحيد، فقد أورثه مواضيعه ومفاهيمه ونتائجه والمدارس المختلفة التي تقاسمته خلال العصر الإسكندري. وهذا يعني أن العلماء العرب الأوائل الذين اشتغلوا بهذا العلم قد تتلمذوا في مدرسة المؤلفين الهيلنستيين أمثال إقليدس وهيرون، وبطليموس، وثيون وغيرهم. لذلك نرى أن علم المناظر يتميز عن باقي العلوم الرياضية العربية كعلم الفلك مثلا بأنه لم يتلق أي إرث غير هيلينستي. ومن أبرز من كتب في هذا العلم هو العالم المسلم ابن الهيثم. لم يكن ابن الهيثم الأول في دراسته لعلم المناظر بل سبقه عدد من علماء المسلمين مثل ابن لوقا والكندي وابن سهل، ولكن كانت دراسة ابن الهيثم في علم المناظر بالمقارنة مع الكتابات الرياضية اليونانية والعربية التي سبقته تتميز بالاتساع والتطوير. ومن أشهر ما كتبه كتاب المناظر.

أثر كتاب المناظر وترك بصمته على الكتابات اللاتينية ومؤلفات عصر النهضة وما بعده، فقد قرأه وتعلم على ترجمته اللاتينية كل من اشتغل في علم المناظر أو في علم الفيزياء منذ أواخر القرن الثاني عشر تقريبا وكان الأساس الذي ارتكزت عليه دراساتهم. قام الغرب بتكملة البناء على علم الإبصار العربي الإسلامي الذي وصل إليهم بما يتناسب مع ثقافتهم ويخدم أهدافهم. بيّن بلتنغ في كتابه «فلورنسا وبغداد، فنون النهضة وعلوم العرب» أن نظرية ابن الهيثم في البصريات جرى تحويلها عند الغرب إلى نظرية صُوَر وأرست الأسس للمنظور الخطي في فنون عصر النهضة التي مثلت الكمال الواقعي، وأن الأشكال الهندسية التي أصبحت الوسط الرياضي الذي أنتج المنظور هي أساس النظرية في علوم البصريات العربية. وبما أن التصوير الواقعي في حد ذاته كان مشروعا غربيا وأساسيا في ثقافتهم، فقد ركز الغرب اهتمامه في تحويل النظرية البصرية إلى نظرية صورية أثرت على الفن وعلى الإنتاج الخارجي، في حين أنه عند المسلمين لم يكن فن التصوير والرسم محط اهتمام العلماء على الإطلاق، فكانت دراستهم لفهم الإبصار بحد ذاته، وبالتالي كان تطبيق علم البصريات عند المسلمين مرتبطا باستغلال الضوء في الفراغ ونتج عن هذا الهدف تطبيقات أخرى ميزت الإنتاج المعماري الإسلامي كالمشربيات التي غطت نوافذ المباني الإسلامية مع سماحيتها للضوء أن ينفذ من خلالها بأنماط هندسية جميلة تنطبع على الأرض، أو إنتاج أشكال ثلاثية معقدة كالمقرنصات التي زينت القباب والأسقف في مختلف المباني الإسلامية. وبالرغم من التطور الكبير الذي أضافه ابن الهيثم كالحُجرة المظلمة التي اكتشفها والتي أرست الأسس الأوروبية لكاميرا أوبسكيرا camera obscura التي درج استخدامها في القرن السابع عشر، إلا أن مؤلفي عصر النهضة كانوا أكثر ميلا إلى توضيح تبعيتهم لمؤسسي هذا العلم الكلاسيكيين كإقليدس وثيون وغيرهما أكثر من ابن الهيثم. وبهذا العرض المختصر تطورت قصة علم الإبصار بين ثقافات مختلفة واستجاب لمتطلبات كل منها ليحقق الإبداع الذي كان، ولا تزال قصته مستمرة وقابلة لبدء فصول بتوجهات تمثل ثقافة مؤلفيها من الشرق والغرب.

إنستجرام: Dr_fatima_Alreda