غنية الغافري

تطل نافذة مكتبي العالية على ساحة مدرسة ابتدائية وخلال عامين أو يزيد وهي فترة الجائحة الكئيبة لم أعد أسمع أصوات الأطفال وهم يلعبون في ساحتها أو صوت جرس المدرسة الذي يرن لكل حصة أو صوت الحارس وهو ينادي أسماء الطالبات ويفض مشاكسات الصغار أو صوت الإذاعة الصباحية الذي أكاد أجزم أنني حفظتها فلم يطالها التحديث كما طال كل شيء حولنا، لم يكن ذلك المشهد يروق لي لا سيما عندما أكون منهمكة في عمل يحتاج لتركيز ذهني عال، بالأمس رأيت نافذتي تطير فرحا ! وكأنما نشطت من عقال وقد قتلتها الأطلال المقفرة والسكون الرهيب أما أنا فالإزعاج الذي كان إزعاجا فيما مضى ما هو إلا نوع من المهدئات اللطيفة التي تضفي الراحة والطمأنينة على النفس وقد كنت أردد وأنا أعيش تلك الفترة القاتلة أبيات عمر بهاء الدين الأميري في قصيدته:

أين الضجيج العذب والشغب ؟

أين التدارس شابه اللعب ؟

أين التشاكس دونما غرض ؟

أين التشاكي ماله سبب ؟

أين التباكي والتضاحك في

وقت معا والحزن والطرب ؟

(بالأمس أصواتهم تملأ نافذتي !

واليوم ويح الكورونا قد ذهبوا ؟)

اليوم وأنا أشاهد الطلاب والطالبات يسيرون في الشوارع ويطلون من نوافذ السيارات وتزدحم بهم المدينة أحمد الله عز وجل على هذه النعمة، فهؤلاء الطلاب يضفون السعادة على الحياة ويرسمون لوحة متفائلة جميلة وهم مؤشر من مؤشرات الجودة والاستقرار والأمل كما أن الاهتمام الذي توليه إدارة تعليم الشرقية في متابعة هذا الحدث وجاهزيته واستنفارها له يدعو للفخر فالعودة الآمنة أمل كل أسرة.

إن قرار عودة الطلاب الذي جاء مفاجئا لم تستعد له معظم الأسر رغم فرحها به وهذا ما يحكيه مشهد الازدحام في محلات «مرايل المدارس» والمستلزمات والأدوات المكتبية، إن الأسر الصحية التي تفاعلت مع تقافز أبنائها وفرحهم بالعودة بخاصة في المراحل الدنيا وأسرعوا لإكمال فرحتهم بشراء ما يحتاجون رغم أن القرار جاء في نهاية الشهر ونهاية الشهر تعني نهاية الراتب ممن ليس لهم دخل سواه، هذه الأسر تتفوق على الأسر التي أخذت موضوع العودة ببرود عجيب ولم تحاول التناغم مع فرحة أبنائها بحجة «ما فيه فلوس» ولأن بعض الآباء لديه فهم غريب لآلية الصرف على أسرهم وأبنائهم فهم يصنفون احتياجاتهم وفق هواهم بل ربما يأثرون أنفسهم عليهم في مصروفات لا داعي لها كمجاملات لزملائهم أو ولائم أو ترفيه وأندية وأطعمة خاصة وملابس وغيره، ولم تترك الأمثال الشعبية هذا الأب دون أن تضربه على قفاه حيث يقول المثل «ما قوى على المنظرة وقوى على مهر المرة» وقصة هذا المثل أن زوجة طلبت من زوجها أن يشتري لها منظرة صغيرة (مرآة) لا تتعدى الخمسة ريالات أو أقل ترى فيها نفسها وتتزين له، لكنه تحجج بقلة ذات اليد وقال لها قولته الشهيرة «ما عندي» ثم ما لبث أن تزوج زوجة أخرى دفع فيها أضعاف أضعاف قيمة المرآة وكأن الزوجة الثانية ستغني هذه الأسرة من الجوع وسترفع لديهم المناعة من الفقر وهي الحاجة الملحة التي ينتظرها الشارع الحكيم من المربين العائلين لأسرهم !، إن من يقتر على أسرته ليوفر لنفسه كماليات لا حاجة له بها لا يستحق أن يكون أبا !، إن المال والوقت حاجتان مهمتان ينتظرهما أفراد الأسرة من الأب، فالأب المشغول الذي لا يفرغ نفسه لأسرته ويعتذر عن مواعيدهم مع كل فرصة ترفيه تأتيه من زملائه أو أقاربه لا يصنع لأبنائه ذكريات جميلة يفخرون بها عندما يكبرون، ولا يحاول أن يكون لهم مصدر إلهام لقصص جميلة يروونها لأبنائهم عن كرم والدهم وإيثاره وحبه ! وأنا لا أقصد أن يحرم الأب نفسه مما يحب لكني أتحدث عن أولئك المقصرين الذين لا يعرفون الموازنة بين ما لهم وما عليهم وبين ما هو ضروري لهم وبين الكماليات، والأطفال أذكياء يفهمون التقصير ويترجمون الحب وكم طفل عبر عن استيائه من انشغال والده وإهماله أو تقتيره ونظر إلى من حوله بعين الغبطة والحسد والقهر.

@ghannia