منذ أن أنزل نيتشه مطرقته على الفكر الغربي وقيمه، وأعلن موت الإله، حتى تداعت الضربات المعرفية، التي لازمت اشتغالات القرن العشرين، وانتهت نتائجها إلى إعلان موت الإنسان وإعلان تلاشي نزعته الإنسانية وتداعي مركزيته، التي كانت مهيمنة طوال قرون عديدة.
لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين بروز تيارات ومناهج تلغي فاعلية الذات، وتلغي كل ما يتصل بها من معنى ودلالة، فمن خلال السطوة الكبيرة للدراسات الألسنية ومناهجها بوصفها الاكتشاف، الذي سيفضي بالعلوم الإنسانية إلى أن تكون في مصاف العلوم الطبيعية على مستوى العلمية والعقلانية والموضوعية، وذلك من خلال رافعتها الكبرى التي تقول بفكرة سلطة اللغة، التي تعني لا حقيقة ولا معنى خارج اللغة، أو خارج النسق (البنيوية) أو خارج العلاقات البينية (التفكيكية) أو خارج سطوة اللاشعور (البنيوية التكوينية) إلى آخره من التوجهات، التي سيطرت في حينها على الحقول المعرفية: في انتروبولوجيا كلود ليفي شتروس، جينولوجيا ميشيل فوكو، ماركسية ألتوسير، أدبية رولان بارت، وغيرها من التوجهات، التي اشتركت جميعها رغم اختلافها على إنزال اللغة منزلة القداسة تعويضا عن غياب قداسة الإله وموته.
وإذا كان ثمة تعارض، يلحظه المرء، بين أهم المبادئ، التي قامت عليها الحداثة الغربية، كالحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وبين مقولة موت الإنسان، فإن مثل هذا التعارض يرتفع جزئيا (وسيتضح ما أعنيه جزئيا مع نهاية المقال)، إذا ما أدركنا أن تلك المقولة لا تعني سوى مفهوم الإنسان في الدراسات والعلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، ولا تعني الإنسان البيولوجي أو السياسي.
لذلك مقولة موت الإنسان مقولة مجازية بالدرجة الأولى، خصوصا وهي ترتبط ارتباطا وثيقا باللغة باعتبارها منبع السلطة ومنتهاها في إنتاج المعنى.
انطلاقا من هذا المنظور، ومن هذه اللمحة الموجزة أود التركيز فيما يلي من هذه المقالة على إجابة السؤال التالي:
هل ثمة علاقة طردية أو عكسية يمكن تلمسها بين ارتدادات مقولة موت الإنسان في العلوم الإنسانية وانحسارها في موجات ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية وبين إيديولوجيا التحرر والحقوق، التي هي علامة بارزة على قيم الحضارة الغربية، وتعززت بعد الحرب العالمية الثانية؟.
قد يبدو للوهلة الأولى أن صيغة السؤال توحي للقارئ أني تغافلت سياقات أخرى ذات صلة وعلاقة أهم بهذه الإيديولوجيا، ألا وهي العلاقة التي تتصل بها طرديا، وذلك بتحول النظام العالمي اقتصاديا وسياسيا من النظام الليبرالي إلى النيوليبرالي وأثر هذا التحول على إفراغ هذه الإيدولوجيا من محتواها، وبالتالي استثمارها كشعار، يتم من خلاله الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب، والأمثلة عديدة ولا حصر لنا في عدها الآن.
قد لا يتعارض هذا القول مع حقيقة تعززه وتتناغم أيضا وتتداخل مع صدى وترجيع مقولة موت الإنسان باعتبار أن هذي المقولة تهمش الإنسان وفاعليته على مستوى اللغة، وهذي الإيديولوجيا تهمشه على مستوى الحياة والعالم.
لكن من جهة، قد يكون صحيحا هذا الإيحاء، إذا ما اقتصر حديثنا على الجانب السياسي والاقتصادي من تلك العلاقة. لكن ثمة علاقات ثانوية لا تبين في الخطابات الثقافية والجمالية والأدبية، وهي علاقات يلجأ صانعوها أو مبدعوها إلى سد الفراغ، الذي تعرت من خلاله القيم، التي كانت تتصل بالإله أو بالنزعة الإنسانية وتفككت أو تذررت بفعل هذه التعرية.
فالإعلاء من شأن الهويات الفرعية في مجمل الخطابات الاجتماعية والثقافية والفكرية والفلسفية لها صلة بهذه العلاقة، العودة القوية للاهتمام بالشخصية الروائية بوصفها إعادة خلق ومحاكاة للخلق الإلهي بأدق تفاصيله، بعدما مرت موجة من الكتابة الحداثية الروائية ألغت الشخصية واستغنت عنها كما دعا إلى ذلك آلن روب غرييه، ونتالي ساروت. وحتى في الكتابة الشعرية وتجاربها على الأقل في التجربة الغربية عادت الذات تسطع بعدما كانت خلف المشهد، لا بالاعتبار الرومانسي والوجودي. لكن بالاعتبار في خلق حيوات أخرى إنسانية من لحم ودم كما بدت ملامحها عند الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، وعموم التجربة الشعرية الحداثية الأمريكية.
@MohammedAlHerz
لقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين بروز تيارات ومناهج تلغي فاعلية الذات، وتلغي كل ما يتصل بها من معنى ودلالة، فمن خلال السطوة الكبيرة للدراسات الألسنية ومناهجها بوصفها الاكتشاف، الذي سيفضي بالعلوم الإنسانية إلى أن تكون في مصاف العلوم الطبيعية على مستوى العلمية والعقلانية والموضوعية، وذلك من خلال رافعتها الكبرى التي تقول بفكرة سلطة اللغة، التي تعني لا حقيقة ولا معنى خارج اللغة، أو خارج النسق (البنيوية) أو خارج العلاقات البينية (التفكيكية) أو خارج سطوة اللاشعور (البنيوية التكوينية) إلى آخره من التوجهات، التي سيطرت في حينها على الحقول المعرفية: في انتروبولوجيا كلود ليفي شتروس، جينولوجيا ميشيل فوكو، ماركسية ألتوسير، أدبية رولان بارت، وغيرها من التوجهات، التي اشتركت جميعها رغم اختلافها على إنزال اللغة منزلة القداسة تعويضا عن غياب قداسة الإله وموته.
وإذا كان ثمة تعارض، يلحظه المرء، بين أهم المبادئ، التي قامت عليها الحداثة الغربية، كالحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وبين مقولة موت الإنسان، فإن مثل هذا التعارض يرتفع جزئيا (وسيتضح ما أعنيه جزئيا مع نهاية المقال)، إذا ما أدركنا أن تلك المقولة لا تعني سوى مفهوم الإنسان في الدراسات والعلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام، ولا تعني الإنسان البيولوجي أو السياسي.
لذلك مقولة موت الإنسان مقولة مجازية بالدرجة الأولى، خصوصا وهي ترتبط ارتباطا وثيقا باللغة باعتبارها منبع السلطة ومنتهاها في إنتاج المعنى.
انطلاقا من هذا المنظور، ومن هذه اللمحة الموجزة أود التركيز فيما يلي من هذه المقالة على إجابة السؤال التالي:
هل ثمة علاقة طردية أو عكسية يمكن تلمسها بين ارتدادات مقولة موت الإنسان في العلوم الإنسانية وانحسارها في موجات ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية وبين إيديولوجيا التحرر والحقوق، التي هي علامة بارزة على قيم الحضارة الغربية، وتعززت بعد الحرب العالمية الثانية؟.
قد يبدو للوهلة الأولى أن صيغة السؤال توحي للقارئ أني تغافلت سياقات أخرى ذات صلة وعلاقة أهم بهذه الإيديولوجيا، ألا وهي العلاقة التي تتصل بها طرديا، وذلك بتحول النظام العالمي اقتصاديا وسياسيا من النظام الليبرالي إلى النيوليبرالي وأثر هذا التحول على إفراغ هذه الإيدولوجيا من محتواها، وبالتالي استثمارها كشعار، يتم من خلاله الهيمنة والسيطرة على مقدرات الشعوب، والأمثلة عديدة ولا حصر لنا في عدها الآن.
قد لا يتعارض هذا القول مع حقيقة تعززه وتتناغم أيضا وتتداخل مع صدى وترجيع مقولة موت الإنسان باعتبار أن هذي المقولة تهمش الإنسان وفاعليته على مستوى اللغة، وهذي الإيديولوجيا تهمشه على مستوى الحياة والعالم.
لكن من جهة، قد يكون صحيحا هذا الإيحاء، إذا ما اقتصر حديثنا على الجانب السياسي والاقتصادي من تلك العلاقة. لكن ثمة علاقات ثانوية لا تبين في الخطابات الثقافية والجمالية والأدبية، وهي علاقات يلجأ صانعوها أو مبدعوها إلى سد الفراغ، الذي تعرت من خلاله القيم، التي كانت تتصل بالإله أو بالنزعة الإنسانية وتفككت أو تذررت بفعل هذه التعرية.
فالإعلاء من شأن الهويات الفرعية في مجمل الخطابات الاجتماعية والثقافية والفكرية والفلسفية لها صلة بهذه العلاقة، العودة القوية للاهتمام بالشخصية الروائية بوصفها إعادة خلق ومحاكاة للخلق الإلهي بأدق تفاصيله، بعدما مرت موجة من الكتابة الحداثية الروائية ألغت الشخصية واستغنت عنها كما دعا إلى ذلك آلن روب غرييه، ونتالي ساروت. وحتى في الكتابة الشعرية وتجاربها على الأقل في التجربة الغربية عادت الذات تسطع بعدما كانت خلف المشهد، لا بالاعتبار الرومانسي والوجودي. لكن بالاعتبار في خلق حيوات أخرى إنسانية من لحم ودم كما بدت ملامحها عند الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، وعموم التجربة الشعرية الحداثية الأمريكية.
@MohammedAlHerz