رائد البغلي

يقسّم الروائي التركي -الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2006م- أورهان باموق الكتابة الروائية إلى نوعين، هما «الكتابة الساذجة» و«الكتابة الحساسة»، فالنوع الأول -حسبما جاء في كتابه (الروائي الساذج والحساس)- يرمز إلى الروائيين والقراء، الذين لا يشغلون أنفسهم بالجوانب الفنية، أما النوع الثاني، فيعني «الذين يولون اهتماما بالغا للأساليب، التي يستخدمونها في كتابة الروايات، والطريقة التي تعمل بها عقولنا». ونلاحظ معه أن السذاجة هنا ليست توصيفا سلبيا للكاتب أو القارئ، بل هي مرادف للحالة العفوية غير المخطط لها في القراءة والكتابة.

في لحظة تخلق النص الأولى، كلنا سذج. مأخوذون تماما بما يمليه علينا الحدس، وبما تفرضه علينا اللحظة. معرضون لقوى خفية أو ما ورائية تزجي بنا إلى مضمار الكتابة دون اختيار. نكتب تحت تأثير القوة الطبيعية، التي نطلق عليها «وحيا» أو «إلهاما»، ونشهد من خلالها ولادة نص جديد، لكننا نعرف أن الكتابة الأولى لا تكفي، وأن هناك طبقات وطبقات من الكتابة المتكدسة بعضها فوق بعض في داخلنا. هناك دائما المرحلة الثانية، أو الكتابة الثانية أو الثالثة أو حتى العاشرة، التي نتفحص فيها ما كتبناه، ويطلق عليها المسودة. إنها المرحلة التي يتغلب فيها العقل على العاطفة، ونبدأ بمساءلة ما كتبنا: هل هو مناسب؟ هل توظيفي له على هذه الشاكلة أدى الغرض منه؟ هل قمت بخلق الانطباع الذي أرومه؟ هل هو خال من الأخطاء؟ هل هو بحاجة للإضافة أو الحذف أو التعديل؟ وبذلك ننتقل من ضفة الكتابة الساذجة إلى ضفة الكتابة الحساسة.

إننا نقرأ -مثلا- في روايات غابرييل غارسيا ماركيز عن امرأة صعدت إلى السماء مستعينة بملاءات بيضاء منشورة على حبال الغسيل، ونكذب كل ما نعرفه عن قوانين الجاذبية، حتى دون أن نتساءل كيف حدث أمر كهذا. كيف يصبح «القارئ الحساس» مذعنا تماما لقانون النص، الذي يتعارض بشكل واضح مع قوانين الطبيعة؟.

قد تكون الإجابة، ببساطة، هي أننا نستطيع أن نختلق، أو حتى نكذب ونتحدى قوانين العالم من خلال الكتابة المدهشة، التي قد تفعل حواس وتعطل أخرى.

إن السر الذي يجعل روائيا قادرا على إقناع القارئ بما لا يقبله عقله، هو أنه يبرع في انتخاب التفاصيل المهمة، وفي توظيفها على النحو الأمثل، الذي يرفع من قابلية النص للتصديق. فالرواية عالم يحتاج إلى تأثيث، كي تمتلك بعد ذلك القدرة على اقتلاع القارئ من واقع معاش إلى واقع موازٍ.

وإذا سلمنا بأن هناك روائيا ساذجا، وروائيا حساسا، فينبغي علينا التسليم أن في منطقة مباينة ثمة قارئ ساذج وقارئ حساس كذلك، حينها ربما يتبادر إلى الأذهان أن بهذه المقارنة قد يقع الكاتب في شرك التعارض بين الروائي الساذج، والقارئ الحساس، أو العكس، إلا أن هذا يجعلنا نتفق بأن الروائي يحتاج أن يكون ساذجا وحساسا في آن، ما يفضي إلى أن يكون قادرا على توظيف المنطق الرصين، بقدر قدرته على أن يترجم حدسه ويستدعي خياله.

ومن الضروري أن ندرك بأننا نقع دائما في منطقة متماهية، بين هاتين المنطقتين. يمكن للكتابة أن تتدفق بسحر فطري خلال صفحات، ثم فجأة يجد الكاتب نفسه عالقا، مضطرا للرجوع إلى الواقع. لذا، على الكاتب أن يحافظ على يقظته داخل ملعب الكتابة، لأن الكتابة الإبداعية تعني أن تذهب أميالا أبعد عن نقطة البداهة والاعتيادية.

السؤال الذي يتسلل قبل النهاية هو: هل كانت جائزة نوبل ساذجة أم حساسة، وهي تختار باموق وتدير ظهرها عن كونديرا؟.

@RaedAAlBaghli