بكر العبدالمحسن

عدت من عملي ظهرا وأنا بحاجة لفنجان قهوة يضبط مزاجي بعد يوم من العمل والإرهاق، وقررت أن أحتسيها في الحديقة والاستمتاع بالأجواء المشمسة، وأثناء استغراقي في الاسترخاء رن جرس هاتفي وقطع حبل خلوتي، وتأملت رقم الاتصال وخلوه من محفظة أرقامي، وخمنت أنه من جهات اتصال ذات صفة تسويقية أو خدمية، وفي تلك الثواني المعدودة من الحسابات والتوقعات تم إرسال إشارة أوامر إلى إصبعي لتمرير فتح المكالمة والرد على صاحبها، وفي النفس شيء من الانزعاج حول توقيت الاتصال وماهية الموضوع والرغبة في قطع الشك باليقين بدلا من البقاء على التخمين.

وبدأ توقيت زمن المكالمة بالتوالي والرد معدوم لعدة ثوان، حينها خرج ذلك الصوت الهادر الرقيق بالسلام والتحية وحسن الاستئذان والاعتذار عن عدم مناسبة الاتصال، ولكن شيمتي تأبى أن ترد بنت الكرام وهي تتمتع بجمال الصوت وأناقة الكلام، فعرفتني باسمي كصاحب الاتصال وأن اسمها سارة من المركز الوطني للاستفتاء، وترغب في مشاركتي في تقييم الخدمات الصحية المقدمة، وأن ما سوف أدلي به تحت إطار السرية، وبدأت رحلة الاستجواب والمغلفة بالتمويه وسحب المعلومات من تحت البساط، فسألتني عن جنسيتي وعمري وعن عملي ومدينتي وعنوان سكني، وكانت تلك بمثابة المقبلات الأولية للانتقال إلى عمق التمثيلية، وافتتحت أسئلة الاستفتاء بهل سبق لك زيارة أحد المراكز الصحية؟وتوالت أسئلة الاستذكاء والتمويه والتي منها ما هو تقييمك للمواعيد الطبية وهل أنت راض عن مستوى أداء الأطباء، ومناسبة الدواء الذي تم صرفه، وهل هو متوافر في الصيدلية؟وهل أسرة التنويم الطبية كافية أم لا؟ ومستوى رضاك عن جودة الأجهزة الطبية؟

وبما أنني في جلسة استرخائية وأود معرفة الفصل الأخير من المسرحية، فقد قررت الالتفاف على أسلوب اللصوصية واتباع منهج المسايرة مع القضية، ففي كل سؤال كنت أطلب التوضيح واستزيد من كل توضيح بتوضيح، وبعدة عدة أسئلة والتوضيح أصبح مملا ولا خروج بفائدة، جاءت لحظة الانقضاض على الضحية بطلب بعض البيانات الرئيسية التي يحتاجها المركز الوطني للاستفتاء لكي يسجل تقييم رضاي عن الأداء بطلب اسمي بالكامل ورقم هويتي والبنك الذي أتعامل معه وأخيرا رقم هاتفي الذي يتم الاتصال عليه الآن.

قد تقول لي عزيزي القارئ أن حل مشكلة اللصوصية في جمع المعلومات يكمن في منع هذه الجهات المشبوهة من مزود خدمة الاتصالات، وأنا أقول لك أنه لا بد من الاعتراف والتسليم أن جمع المعلومات الخصوصية للأفراد أصبحت مهنة وتجارة عصرية، وبأدوات تقنية وفنية ونفسية، تتفنن فيها تلك الجهات المشبوهة بأساليب متطورة وبرامج دقيقة، وتوظف لها العديد من الموظفين ذوي الكفاءات العلمية والتكنولوجية والتقنية، وأن تلك المعلومات التي يتم جمعها هي مادة ذات عائد ثمين يتم عرضها وبيعها في الأسواق على الجهات التي تريد استغلالها والاستفادة منها في نواح متعددة، ولا طريق لحماية الخصوصية الشخصية إلا بالحذر الذكي مع الأجهزة الذكية وتطبيقاتها والتواصل المباشر لاستطلاعات الرأي وروابط تحديث البيانات والتسجيل في الخدمات، وأن كل اختراق يريد أن يأخذ منك ما يسترزق به على غيرك، وأن الدقة وتوخي الحذر وشدة الانتباه لحماية معلوماتنا هي السبيل الوحيد والأكيد للنجاة من أي عملية احتيال إلكترونية، وأن أدوات الحماية التقليدية لأموالك ومقتنياتك وخصوصيتك قد انتهى عصرها وباتت مادة للمتاحف والذكريات، وأن التجارة الجديدة في العصر الراهن هي الاستثمار في اللصوصية المعلوماتية.

baker4443@gmail.com