د. نايف بن عيسى الشدي

يقال بأنه مجرد رقم، وأن لكل مرحلة متعتها، وأن ما يشغل ابن الأربعة عشر ربيعًا لا يكترث له ذو العشرين، وأن من هم في بحر الثلاثين في شغلهم «تائهين»، حتى إذا ما بلغ أحدهم الأربعين ارتبكت خطواته، وزادت بالقلب نبضاته، وبدأ يقلب النظر في منجزاته، وقد ظن بأنه حدد وجهته، غير أنه فعليا لم ينجز إلا بعض أحلامه وغايته، فتراه لم يعد يكترث بأحد غير ذاته، ولم يعد يهتم بما يقال عنه أو بما عليه فعله، أو لنقل بأنها فترة اللامبالاة في حياته.

وفي الخمسين يقال بأنه يصاب بما يسمى أزمة منتصف العمر، فيعتريه شعور الغربة، ويبدأ الناس يقبلون رأسه، ويلقبونه بـ «العم»، ويلقبونها بـ «الخالة»، في حين أنه على يقين بأنه لم يعش بعد حياته، فيحاول عبثا أن يدرك ما فاته، ويسابق الزمن ليلحق به، حتى إذا ما دلف في محيط الستين، تبين له أن الوقت أبرق من البرق، وأن حياته على كف من العتق، وأن كل من ظن بأنهم بالقرب منه، هم أبعدهم عنه، وأن الكل منشغل بنفسه، وبتفاصيل حياته، وأن من كان يخشى أحكامهم وآراءهم، لا اعتبار له في حياتهم، وأن كل الحروب القائمة أو التي وضعت أوزارها، كأن لم تقم، وقد كان على يقين حين خاضها بأنها مصيرية وحتمية، وهي في حقيقتها لم تكن كذلك، وأن ما أهدره من وقت وجهد وصحة كان أولى به أن يجعله له، ولمن له حق عليه.

وما العقاد ببعيد عن ذلك عندما قال: «غناك في نفسك، وقيمتك في عملك، وبواعثك أحرى بالعناية من غاياتك، ولا تنتظر من الناس كثيرًا تحمد عاقبته بعد كل انتظار».

أما ابن السبعين فعندما يلتفت على من حوله، يجد بأن جل صحبه قد فارقوه، طوعا أو كرها، وأن ما بقي له هو ما أنجزه، وأن الشيء الوحيد الذي يُذكر به، هو ما حققه، وأن الباقي معه هو ما بقي له من جسده، وأنفاسه، وبقية أحلامه وأعماله، وما سوى ذلك سراب، وإن كان لا يزال يراه.

والصحبُ... أين رفاقُ العمرِ؟ هل بقِيَتْ *** سوى ثُمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ

بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا *** قلبي العناءَ! ولكن تلك أقداري «القصيبي»

والأسئلة التي تراوده وتأتي بعد ذلك كله:

ماذا لو استقبلت من أمري ما استدبرت؟

هل سأعود كما بدأت؟ هل سأنشغل بمن أو بما انشغلت به؟ هل كانت تلك الهموم -وقد انقضت ومضت - تستحق ما أهدرت لها من وقت وعمر وصحة؟ هل كان علي أن أعيش - كدرًا- بعد هؤلاء الذين أصابتني صحبتهم بخيبات أمل؟

هل وهل وهل ...

أم أني لن أسمح لكائن ما أن يحول دوني، وأن يشغلني عن أجمل لحظات حياتي، وعن لذة تحقيق منجزاتي والتركيز على أهدافي ونجاحاتي، وعن النظر في عيون من أحب من أهلي وصحبي وأقرب الناس إلى قلبي، وأن أكون كما أحب ويجب، لا كما يراد لي أن أكون، فلا أنا الذي كنت، ولا أرضيت ولا رضيت.

أترانا بحاجة لانتظار الثمانين كي ندرك حقيقة ذلك كله؟

يا من بيدك حروفي...

ثق بأن «العمر الحقيقي ليس ما قد بلغه أحدنا، بل هو ما نشعر به من داخلنا» (ماركيث)، وتأكد أنه لم يفتك شيء، فمهما بلغت من العمر، تذكر أن الروح لا تشيخ أبدا.

@nayefcom