أ.د.هاني القحطاني

Hanih@iau.edu.sa

شفشاون تلك البلدة (الأصغر من المدينة والأكبر من القرية)، التي لا يضاهيها في هدوئها وتقليديتها ربما بلدة أخرى في طول العالم الإسلامي وعرضه. إن بحثت عن بياض الثلج وحبات البرد (كما في أدعية المصلين) وزرقة السماء وماء البحر في يوم صاف، فستجده في جدران بيوت البلدة صعودا ونزولا، وقد اكتست جدرانها منذ قرون خلت، عندما استضافت المهاجرين إليها بعد سقوط الأندلس، بوشاح أبيض وأزرق جعل منها حالة فريدة في بناء وجماليات وسوسيولوجيا العمارة التقليدية في العالم.

هذا البياض الناصع وزرقة بيوت البلدة حري بها أن تكون على موعد مع فن أو مهرجان أو حدث سعيد يعكس صفاءها النادر. لكن تشاء الأقدار عكس ذلك. فقد حبس العالم أنفاسه طوال أسبوع كامل ترقبا لمصير طفل بريء ساقه حظه العاثر إلى قدر محتوم أصبح اليوم حدثا من الماضي.

سقوط الأفراد (أطفال في معظمهم) في فوهات آبار ضيقة حدث يتكرر بين حين وآخر، منه ما يحظى بتغطية إعلامية، ومنه ما تطويه غياهب النسيان. ففي صيف 1987 وفي ولاية تكساس الأمريكية سقطت الطفلة جيسيكا في فوهة بئر حبس العالم أنفاسه لتتبع حالتها. وقتها آنذاك كانت محطة الـ«سي إن إن» الإخبارية في بداية ظهورها، وقد شكلت هذه الحادثة تاريخ البث التليفزيوني الحي، وهو ما ساهم في الوقت نفسه في انتشار الـ«سي إن إن» كمحطة ناقلة للخبر لحظة وقوعه. لقد صنعت تلك الحادثة تاريخ المحطة الشهيرة، التي استمرت في بث حي من فوهة البئر لأكثر من يومين بلياليهن إلى أن تم إنقاذ الطفلة. وتبقى لحظة إخراجها من فوهة البئر حدثا فارقا في ثمانينيات القرن الماضي. وفي صيف 2018 علق فريق كرة قدم تايلندي مع مدربهم في كهف داخل الأرض بعد سقوط غزير للأمطار، وبعد أكثر من أسبوعين تم إخراج كل أعضاء الفريق بالكامل، الذين هجروا كرة القدم وأصبحوا رهبانا بوذيين بعد هذه الحادثة.

تطرح هذه الواقعة عددا من الظواهر، التي تستحق الوقوف عندها قليلا. لعل ما يجمع بين هذه الأحداث هو التعاطف الشعبي المنقطع النظير، الذي تحظى به، وهو تعاطف عابر للقارات والأديان والجنسيات. في هذه الأحداث تتجلى إنسانية البشر جماعات وأفرادا. هنا تسقط جدران الخلافات السياسية بين الدول. لقد فاقت اتصالات المتعاطفين مع الحدث من كل الجنسيات والأعمار كل التوقعات، مما حدا ببعض الفضائيات إلى تخصيص بث مباشر على مدار الساعة للحدث. من أطراف العالم العربي ووسطه ومن شرقه وغربه فاضت مشاعر الناس تعاطفا مع الحدث. ومن استحضار لقصة سيدنا يوسف -عليه السلام- في غياهب الجب إلى حادثة سيدنا يونس -عليه السلام- في بطن الحوت، إلى عباد ونساك، منهم مَن سمعنا، ومنهم لم نسمع من قبل، لم تتوقف حناجر الداعين وأصوات الملبين بأن يخرج الله الفتى من كربته. وربما كانت أصوات المتعاطفين الجزائريين هي الأعلى في هذا المجال. لقد دكت هذه الأصوات بمشاعرها الفياضة، التي تتفجر بكل معاني الإنسانية جدران الحدود بين الجارين الشقيقين. لقد سمت هذه المشاعر فوق الخلافات السياسية بين الجارين الكبيرين. وكما علق البعض فقد وحدت هذه الحادثة العرب كما لم يتوحدوا من قبل.

وفي حمأة هذا التعاطف وروح الإنسانية، التي جمعت البشر وسمرتهم لساعات وبعضهم لأيام أمام الشاشات، جاء الخبر المحزن كالصاعقة بانتقال الطفل إلى جوار ربه. هنا تحول المشهد من حال إلى حال، وقد عكست وجوه مذيعي الفضائيات هذه اللحظة النادرة في تاريخ الإعلام المرئي العربي. لقد كانت لحظة قاسية في الانتقال من أمل إلى ألم، ومن أفراح إلى أتراح.

نحن نتحدث عن ريان. والاسم مليء بكل معاني الرمزية. ويبدو وكما كانت مشيئة الله أن جسم الفتى اليافع الغض لم يقو على تحمل السقوط من علو ناهز الثلاثين مترا، ولم يستطع مقاومة زمهرير البرد في غيابة الجب. ربما كانت مشيئة الله أن يكون ريانا في حياة أبدية خالدة عند مليك مقتدر.