أ.د. هاني القحطاني

يحبس العالم أنفاسه هذه الأيام على إيقاع ما أصبح يعرف بالأزمة الأوكرانية، في تعاقب سريع للأحداث، التي تضع العالم بأسره على أعتاب واقع سياسي وإستراتيجي وعسكري جديد. في أي سياق يا ترى يمكن لنا فهم ما يصفه المحللون السياسيون والخبراء الإستراتيجيون بأنه أهم تطور جيوسياسي عسكري تشهده أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

اسم أوكرانيا مشتق من فضاء جغرافي وهو يعني حرفيا «الجنوب» لكل من روسيا وبولندا والسويد، وفي أصل التسمية ما يساعد على التعرف على أصل الأزمة وربما وضع حلول لها بخلاف روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي الغابر. إنها أكثر من بلد. إنها أمة. إنها كيان حضاري ثقافي. إنها فضاء جيوسياسي، بلغ من حجمه أن له تسعة مواقيت للزمن. غير أنها تختلف عن بلدان الغرب الرأسمالي الديموقراطي. إنها تبعا لمقاييس الربح والخسارة في عالم السياسة اليوم، قوة عسكرية فحسب. ويبدو أن روسيا بحاجة إلى دويلات تدور في فلكها. فها هي في صيف 2008 تقتطع إقليم أوسيتا الشمالية وأبخازيا من جمهورية جورجيا، إحدى جمهوريات الكيان السوفيتي، وقبلها قضت بكل ما أوتيت من قوة على محاولات الشيشان الانفصالية. هذا ما يقوله تاريخها القريب.

في مشهد تاريخي نادر طلع الرئيس الروسي هذا الأسبوع ليعلن للعالم أجمع اعتراف روسيا بالإقليمين الساعيين إلى الانفصال عن أوكرانيا كجمهوريتين مستقلتين بعد اجتماعه بمجلس الأمن الروسي وكبار مستشاريه، في ظهور يعكس إلى حد كبير طريقة صنع القرار في روسيا بوتين، وتقاليد الحكم فيها. في هذا الاجتماع استمع القيصر الجديد إلى مداخلات أعضاء مجلس الأمن القومي، التي أوصت كلها بالإجماع على الاعتراف باستقلال الإقليمين عن أوكرانيا. وما هي إلا سويعات حتى ظهر الرئيس في خطاب تليفزيوني جديد مخاطبا شعبه والعالم باعتراف روسيا بهذين الإقليمين جمهوريتين منفصلتين عن جاره اللدود.

لم يكن القرار مفاجئا. غير أن الجديد في الأمر على الأقل أمام عامة الناس هو مضمون الخطاب بكل تفاصيله. لم يعهد الروس رؤية زعمائهم على شاشات التلفزة يبررون ويشرحون بأطناب في مسوغات اتخاذ القرارات السياسية الصعبة. لقد كانت هذه القرارات تؤخذ وتنفذ في خلسة من الليل. في خطابه التاريخي هذا رسم سيد الكرملين لنفسه صورة تختلف جذريا عن أسلافه الروس والسوفييت. لقد أزال الهالة التي كانت تحيط بهم. فها هو يعلن أن أوكرانيا كبلد مستقل لم تكن لتكن لولا لينين نفسه مؤسس الاتحاد السوفيتي، الذي يحلم بوتين بإعادة بنائه. هذا خطاب جديد، ونهج جديد، لرجل جديد، في عصر جديد، وفي تعامله مع الغرب. وبالرغم من صولات وجولات الاتحاد السوفيتي الغابرة في شرق أوروبا، إلا أن تدخلاته العسكرية كانت تبرر على أنها دفاعية في سياق الحرب الباردة بين الشرق والغرب.

يبقى زحف الناتو شرقا ووصوله إلى عتبة الدب الروسي هو بيت القصيد في كل ما يجري. فقد قبلت روسيا على مضض منذ تفكك الاتحاد السوفيتي تمدد الحلف شرقا على أنقاض حلفها البائد. وفي كل مرة كانت هناك حزمة من الضمانات التي يبدو أنها لم تكبح جماح تمدد الحلف. هكذا وجد الدب الروسي نفسه محشورا في زاوية لم يعد بإمكانه إلا أن يتصدى لها.

من الصعب تكهن بما سيحصل في الأيام والأسابيع والشهور القادمة غير أنه من المؤكد حتما أن فصلا جديدا قد كتب في تاريخ أوروبا والعالم: أحداث أفرزتها بقايا الحرب الباردة وما تمخض عنها في ظل نظام عالمي اتسم بقطبية سياسية واقتصادية واحدة. غير أن هناك قوة اقتصادية بشرية سياسية صاعدة بصمت وثبات وهي وللمفارقة سليلة العقيدة الأيديولوجية، التي لفظتها روسيا جورباتشوف ويلتسن بعد انهيار البناء السوفياتي عام 90.

الدب أكبر الكائنات المفترسة على اليابسة يظل مستغرقا في سباته لأكثر من نصف العام، وعند استيقاظه فلا أحد يستطيع الوقوف أمامه. هل كتب على أوكرانيا يا ترى أن تدفع ضريبة جوارها للدب النائم في خضم الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب؟.

Hanih@iau.edu.sa