إننا نقرأ أحيانا لبعض الكتّاب البارعين، ونشعر بين سطورهم برقصات ناعمة، تتخللها خطوات للأمام، وأخرى للخلف، ونتساءل: أنى لهم هذه الخفة والبراعة في الرقص صعودا ونزولا على سلم التجريد؟!
الكتّاب الحاذقون يصعدون سلم اللغة في خفة، ويهبطون بسلاسة، وإذا كان التجريد فكرة تروم التجسد، فبمقدورنا تجسيد كلمة «شوق» في عناق، وكلمة «ألم» في كدمة، وكلمة «سعادة» في هدية. والكاتب الذي يمتلك أدواته الصلبة ولياقته العالية، يستطيع أن يراوح بين المحسوس والمجرد مرارا، دون أن يكل أو يشكل عليه الأمر.
في العادة، يبدأ الكاتب الحصيف برصف التفاصيل، وتأثيث عالم الرواية الفسيح، حتى يصبح شيئا ماديا ثلاثي الأبعاد، يؤثر بشكل أساس في خطو الأحداث وبناء الشخوص. إن كاتبا أقل حساسية يمكن أن يلج في فكرته مباشرة دون تمهيد، ولكن الكاتب المدرك لأهمية الوصف يزج بالقارئ في قلب المشهد، ويجعله جزءا منه. إنه يحاصره في عالم محسوس ثم يقذف به في سماء المعنى. يذكر باموق أن البطل في القصص القديمة يحدد داخل المشهد، ونحن القراء نقف خارجه، بصفتنا متفرجين على الأحداث. لكن «الرواية تدعونا إلى دخول المشهد، إلى رؤية الكون من منظور البطل». إنها المكان الذي يتأتى لك فيه أن تكون شخصا آخر.
يرتطم كاتب الرواية غالبا بسؤال لحوح، وهو: ماذا نصف؟ وما هي التفاصيل التي ينبغي إبرازها، وما هي التفاصيل التي يلزم استبعادها تماما من النص، ولكي نجيب عن هذا السؤال، ينبغي علينا أولا أن نميز التفاصيل البديهة كي نتجنبها ما لم تكن هناك حاجة ملحة لإقحامها، ونتعرف أيضا على العلامات الفارقة في الشخصية كي نبرزها.
مثلا: عندما يقرر الروائي وصف شخصية يابانية، فإنه قد يتجاوز لون الشعر الأسود القاتم، وضيق العينين، وبياض البشرة، لأنها أمور بديهة، أو قد تكون سمات مشتركة بين كل الشعب الياباني، ولأنها لن تنطوي على إضافات مدهشة للقارئ، فلا تستحق الاستغراق في وصفها وإفراد صفحات، أو حتى فقرات لها. ولأن الوصف قد يقوم على الأشياء، التي تنفرد بها الشخصية، أو الفروقات التي قد تنشأ بينها وبين الغير، فإن الكاتب يتعمد أن يومض على الشفة الأرنبية، أو العينين الزرقاوين، أو الساقين المقوسين، أو الظهر المحدوب، أو اللحية الكثيفة المدببة، أو الأسمال البالية، وهكذا.
في الوقت الذي يعتقد فيه بعض الكتّاب أن الشخصيات تخلق أو تصنع، يعتقد البعض الآخر منهم أنها موجودة مسبقا، وأن كل ما علينا فعله هو البحث والتنقيب عنها حتى نعثر فيها ونجذبها إلى سطح الرواية. تقول إليزابيث بوين: «لا يمكن للمرء أن يصنع شخوصا، وحدها الدمى يمكن أن تصنع»، لكن إذا نجح الكاتب في خلق شخصيات حية داخل العمل الأدبي، ستصبح أكثر واقعية وإحساسا من كاتبها في عيون القارئ، لأنه في خضم قراءته للعمل، فإنه يتعامل مع شخصياته وليس مع كاتبه. يرافقهم في كامل الرحلة، ويشعر بما يشعرون به، ويتقاسم معهم العبء بإرادته.
كلنا نعرف شخصيات مثل روبن هود وعلاء الدين والدمية بينوكيو وعلي بابا. إنها شخصيات أكثر شهرة وواقعية من أصحابها. إنها خالدة رغم رحيل بعض أو كل أصحابها. أصبحت أيقونات مضيئة، وتستمد وجودها في الواقع ليس من الأدب وحسب، بل من ذاكرتنا الجمعية، التي ترفض التفريط بها. لأنها لم تعد مجرد شخصيات حبيسة لصفحات أدبية، ففي وثبة واسعة، هشمت جمود النص، وتحولت إلى شخصيات كرتونية وسينمائية متحركة، ولوحات فنية وعلامات تجارية وصور مطبوعة على الجدران والكراسات والقمصان. إنها نجحت في التسلل إلى الوجدان الجمعي، وتحولت إلى جزء من الإرث الثقافي.
@RaedAAlBaghli
الكتّاب الحاذقون يصعدون سلم اللغة في خفة، ويهبطون بسلاسة، وإذا كان التجريد فكرة تروم التجسد، فبمقدورنا تجسيد كلمة «شوق» في عناق، وكلمة «ألم» في كدمة، وكلمة «سعادة» في هدية. والكاتب الذي يمتلك أدواته الصلبة ولياقته العالية، يستطيع أن يراوح بين المحسوس والمجرد مرارا، دون أن يكل أو يشكل عليه الأمر.
في العادة، يبدأ الكاتب الحصيف برصف التفاصيل، وتأثيث عالم الرواية الفسيح، حتى يصبح شيئا ماديا ثلاثي الأبعاد، يؤثر بشكل أساس في خطو الأحداث وبناء الشخوص. إن كاتبا أقل حساسية يمكن أن يلج في فكرته مباشرة دون تمهيد، ولكن الكاتب المدرك لأهمية الوصف يزج بالقارئ في قلب المشهد، ويجعله جزءا منه. إنه يحاصره في عالم محسوس ثم يقذف به في سماء المعنى. يذكر باموق أن البطل في القصص القديمة يحدد داخل المشهد، ونحن القراء نقف خارجه، بصفتنا متفرجين على الأحداث. لكن «الرواية تدعونا إلى دخول المشهد، إلى رؤية الكون من منظور البطل». إنها المكان الذي يتأتى لك فيه أن تكون شخصا آخر.
يرتطم كاتب الرواية غالبا بسؤال لحوح، وهو: ماذا نصف؟ وما هي التفاصيل التي ينبغي إبرازها، وما هي التفاصيل التي يلزم استبعادها تماما من النص، ولكي نجيب عن هذا السؤال، ينبغي علينا أولا أن نميز التفاصيل البديهة كي نتجنبها ما لم تكن هناك حاجة ملحة لإقحامها، ونتعرف أيضا على العلامات الفارقة في الشخصية كي نبرزها.
مثلا: عندما يقرر الروائي وصف شخصية يابانية، فإنه قد يتجاوز لون الشعر الأسود القاتم، وضيق العينين، وبياض البشرة، لأنها أمور بديهة، أو قد تكون سمات مشتركة بين كل الشعب الياباني، ولأنها لن تنطوي على إضافات مدهشة للقارئ، فلا تستحق الاستغراق في وصفها وإفراد صفحات، أو حتى فقرات لها. ولأن الوصف قد يقوم على الأشياء، التي تنفرد بها الشخصية، أو الفروقات التي قد تنشأ بينها وبين الغير، فإن الكاتب يتعمد أن يومض على الشفة الأرنبية، أو العينين الزرقاوين، أو الساقين المقوسين، أو الظهر المحدوب، أو اللحية الكثيفة المدببة، أو الأسمال البالية، وهكذا.
في الوقت الذي يعتقد فيه بعض الكتّاب أن الشخصيات تخلق أو تصنع، يعتقد البعض الآخر منهم أنها موجودة مسبقا، وأن كل ما علينا فعله هو البحث والتنقيب عنها حتى نعثر فيها ونجذبها إلى سطح الرواية. تقول إليزابيث بوين: «لا يمكن للمرء أن يصنع شخوصا، وحدها الدمى يمكن أن تصنع»، لكن إذا نجح الكاتب في خلق شخصيات حية داخل العمل الأدبي، ستصبح أكثر واقعية وإحساسا من كاتبها في عيون القارئ، لأنه في خضم قراءته للعمل، فإنه يتعامل مع شخصياته وليس مع كاتبه. يرافقهم في كامل الرحلة، ويشعر بما يشعرون به، ويتقاسم معهم العبء بإرادته.
كلنا نعرف شخصيات مثل روبن هود وعلاء الدين والدمية بينوكيو وعلي بابا. إنها شخصيات أكثر شهرة وواقعية من أصحابها. إنها خالدة رغم رحيل بعض أو كل أصحابها. أصبحت أيقونات مضيئة، وتستمد وجودها في الواقع ليس من الأدب وحسب، بل من ذاكرتنا الجمعية، التي ترفض التفريط بها. لأنها لم تعد مجرد شخصيات حبيسة لصفحات أدبية، ففي وثبة واسعة، هشمت جمود النص، وتحولت إلى شخصيات كرتونية وسينمائية متحركة، ولوحات فنية وعلامات تجارية وصور مطبوعة على الجدران والكراسات والقمصان. إنها نجحت في التسلل إلى الوجدان الجمعي، وتحولت إلى جزء من الإرث الثقافي.
@RaedAAlBaghli