لطالما كانت الاختراعات والاكتشافات العلمية من المحركات الأساسية، التي تؤثر على ثقافة المجتمع وتغيرها، وقد تقلب موازينه كلها وعلى جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فكلما كشف الإنسان عن دقيق ما حوله، قام بتطوير حياته باختراعات تخدمه. قد تهيمن بعض المجتمعات على أخرى بسبب هذه الاختراعات، ثم تنتقل هذه الاختراعات من مجتمع إلى آخر بسرعة انتقال الثقافة، سرعة الثقافة التي كانت تقاس بسرعة انتقال الإنسان والآن تقاس بسرعة الموجات الكهرومغناطيسية. دخل الإنسان بفضل اختراع العدسات إلى العوالم الدقيقة كعالم النواة والكروموسومات في الأحياء. ووصل بسببها أيضا إلى عوالم الفلك الضخمة، وامتد بصره إلى مجرات تبعد عن مجرتنا درب التبانة آلاف السنين الضوئية. عندما اخترعت العجلة (الدولاب) حوالي 4000 سنة قبل الميلاد كانت لغرض تشكيل الفخار ثم تطور استخدامها وبدأ الإنسان يجر العربات ثم استخدم في جرها الثيران والخيول. سهل اختراع العجلات الإنتاج الزراعي ثم طور في الاقتصاد، ثم استخدمت في التنقل والحروب وأثرت على امتداد الدول. وعندما اخترع الرومان الخرسانة القديمة تغيرت عمارتهم وأصبحوا قادرين على بناء مبان بمساحات شاسعة وأشكال مختلفة أثرت على إنتاج مَن جاء بعدهم، وأثرت على النظم الاجتماعية والاقتصادية للدولة. وعندما اخترع الطباع الألماني يوهان غونتبرج في القرن الخامس عشر طريقة الأحرف المتنقلة كبديل للكتابة اليدوية أصبح إنتاج الكتب أسرع، وبالتالي أرخص، فانتشرت الكتب المطبوعة وما تحتويها من علوم وثقافات وانتقلت بين الشرق والغرب. وقد قَلب (واط) مجريات الحياة الإنسانية في القرن الثامن عشر، وتحديدا في 1782م، عندما طور على تصميم (نيوكومن) وأنتج المحركات البخارية، وكان ذلك فجر الثورة الصناعية، التي قلبت النظام الإنساني وأدخلت الآلة كشريك وبديل للإنسان، وتطورت وسائل النقل البرية والبحرية كالقطارات والسفن البخارية لتقرب البعيد وتزيد من الامتداد الأفقي للمدن. أصبحت المدن نقاط جذب قوية تستقطب السكان والعاملين من مختلف الأماكن، وبالتالي تغيرت ديموغرافية المدن، وتغيرت أنظمتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. وعندما نتج اختراع الكاميرا بعد سلسلة من التطورات بدأ بالعالم المسلم (ابن الهيثم) وحتى كاميرا أوبسكيرا أثرت وانعكست على تصميم العمارة وتجاوب معها كبار المعماريين الحداثيين لو كوربوزييه وفالتر جروبيوس وغيرهما. لينتجوا تصاميم تواكب التفكير البصري الجديد. وضمن جميع الاختراعات المتنوعة نقف عند اختراع بحجم كف اليد ولكنه يحوي العالم بأكمله. نقف عند الهاتف المحمول الذي أصبح حاجة أساسية لكل فرد في الأسرة. لم يعد كما كان في بداياته وسيلة لنقل الصوت، بل تطور لينقل الصورة ويواكب الحدث، وزاد في تطوره بما يحويه من تقنيات وبرامج تجعل حامله لا يحتاج إلى غيره فبإمكانه الانتقال في ثوانٍ بين الشرق والغرب، ومن هنا نرى سرعة انتقال الثقافات وتأثيرها على المجتمعات. نرى تأثير الانفتاح على أجمل المناظر الطبيعية والمباني العالمية على الرقي العام في تذوق الجمال وهو ما يمكن أن نسميه برمجة العقل الجمعي، فبسببه أصبح هناك ارتقاء في الذائقة الجمالية والتطلعات المستقبلية. فتجد المجتمع يتناقل صور الأماكن عبر برامج الجوال كسناب وإنستجرام، وينجذب إليها لتنعكس بالمقابل على أفكار المصممين كما فعلت الكاميرا في معماريي الحداثة. ونجد تفاعل أطفال المجتمع وشبابه مع برامج أخرى كـ«تيك توك» ليكون مجتمعات أخرى مختلفة لها رموزها وشفراتها الخاصة، وكثيرا ما ترى رقصات ودمدمات مشتركة بينهم في كل فترة موجة واتجاه لا تعلم مَن يقودها. هنا تبرز قوة ثقافة المجتمع وقدرتها على فلترة ما يصل إليها من أفكار قد تضر بأصول وجذور الثقافة الصحيحة وقبول ما يبني الأجيال المستقبلية.
إنستجرام: Dr_fatima_Alreda
إنستجرام: Dr_fatima_Alreda