شاهر السلمي

أزمة أوكرانيا تشهد حراكا دبلوماسيا غير مسبوق على الساحة الدولية، ومن خلالها نستطيع فهم القواعد الدبلوماسية الناجحة لإدارة المفاوضات. إن نجاح طرف لا يعني بالضرورة خسارة الطرف الآخر، فقد يخرج الطرفان بمكاسب أو خسائر، ولكنها نسبية بكل تأكيد، وتكمن أهمية نجاح أي مفاوضات لأي طرف في مدى قدرته لتقليل خسائره وزيادة حصته من المكاسب، فإن المفاوض الناجح هو مَن يجعل الطرف الآخر يشعر بحاجته للتفاوض، فالدول تخلق أزمات من أجل الحصول على تسويات تعزز بها مكانتها وقوتها مما يحفظ أمنها وأزمة أوكرانيا مثال على ذلك.

إن لعبة المفاوضات تحتاج إلى مفاوض ماكر ومحتال بلا شك، ولكن في الوقت نفسه يجب أن يلبس رداء الشرف، وأن يتظاهر أحيانا بالقوة حتى يسهل عليه تحقيق أكبر قدر من المكاسب. فالمفاوضات لا تختلف كثيراً عن الحروب، فالمنتصر هو من قلة خسائره أو مَن حافظ على مكتسباته وعزز منها، ويقال إن المفاوضات تختلف عن المساومة، ففي المساومة لا بد من وجود طرف خاسر أما المفاوضات فلا يوجد فيها ذلك الطرف فالجميع يحقق مكاسب منها، كما نصت بذلك نظرية الألعاب «Game Theory» فائز- فائز. ولكن واقع العلاقات الدولية يختلف كثيرا مع هذا الطرح، حيث إن أي مفاوضات يجب أن تتخللها مساومة ولا بد من وجود خاسر، وإن كان ذلك نسبيا، فالواقع يحتم وجود المساومة خلال المفاوضات وحسابات القوة ودرجة العدائية ومهارة المفاوض لكل طرف تحدد مَن ينتصر فيها.

أزمة أوكرانيا مثال على إدارة المفاوضات من منطق «القوة» كأنما يريد الروس إثبات هيبتهم أولا قبل الدخول في المفاوضات، فبدا ذلك واضحا عندما اجتمع الرئيس الفرنسي ماكرون مع الرئيس بوتين، حيث إن الأخير أدار الحوار ولم يكترث كثيرا لرغبة الغرب، حيث ظهر بوتين متعاليا لا يأبه بكل الوعيد والتهديدات، التي يتعالى بها أصوات صناع القرار في الغرب، حتى مع فرض بعض العقوبات بعد إعلان الرئيس الروسي بوتين اعتراف بلاده باستقلال المنطقتين الانفصاليتين في أوكرانيا مما يعد تصعيدا لم يكن يتوقعه الغرب، خصوصا أن المؤشرات كانت تشير إلى تهدئة تلوح في الأفق. ونعتقد أن حشد الجيش والمعدات على الحدود الأوكرانية لا يشير على رغبة الروس في احتلالها حتى إن فعلت ذلك في المستقبل ولكن نعتقد أن ذلك ليس هدفا إستراتيجيا لهم، إنما يريد الروس فرض هيبتهم وإبراز قوتهم. فالدول تتصرف بعدائية عندما تشعر بأن أمنها وسلامة أراضيها تحت التهديد فتوسع حلف الناتو وقرب قواعدها وصواريخها من عاصمتهم يعد تهديداً مباشراً لهم، فحلف الناتو يتوسع بشكل سريع شرقا. إن هذه الأزمة والتصعيد الروسي ما هي إلا رسائل في مضمونها أن روسيا لديها القدرة على الدفاع عن نفسها والتوسع أيضا إن احتاج الأمر إلى ذلك، فالهدف هو الضغط للجلوس على طاولة المفاوضات فالتهدئة نراها قادمة لا محالة، وستكون بداية الطريق لمفاوضات شاملة مع حلف الناتو، فإن حدث ذلك فمن المرجح أن الروس ستكون لهم الكلمة العليا في المفاوضات، ويتنازل الناتو عن كل ما يثير مخاوف الروس الأمنية.

وأخيرا إدارة المفاوضات بطريقة ناجحة تعتمد بدرجة كبيرة على قدرتك في فرض ما تريده من خلال قوتك سواء كانت تلك القوة مرتبطة بقدراتك العسكرية أو موقعك الجغرافي أو مكانتك الاقتصادية، وخلاصة القول «المنتصر في المفاوضات هو مَن يظهر هيبته قبل أن يتفاوض» تماما كما تفعل روسيا اليوم.

@shaheralsolami