أ.د. هاني القحطاني

أن تقرأ عن التاريخ شيئا، وأن تشاهده بأم عينيك وتعيشه يوما بيوم وساعة بساعة ولحظة بلحظة فذاك شيء آخر. هذا هو حال العالم مع الصراع المتفجر اليوم بين روسيا والغرب.

يعيش العالم هذه الأيام لحظة تاريخية فارقة. فلأول مرة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تشهد أوروبا وهي مسرح آخر وأعنف حرب كونية عملية عسكرية بمثل هذا الحجم، قوبلت بردود أفعال واسعة غير مسبوقة من الغرب على كل الأصعدة.

يطرح غزو روسيا لأوكرانيا مسائل كثيرة على مسرح السياسة الدولية. كثيرة هي المواضيع والأسئلة والأطروحات والأطروحات المضادة، الموضوعية منها، والمؤدلجة، وكل له في مبتغاه نصيب. يأتي هذا الحدث الجلل كصخرة حركت مياها آسنة في السياسة الدولية ككل. فلأول مرة يرى العالم اصطفافا غير مسبوق للدول الغربية ضد الند اللدود للغرب روسيا. وصل الأمر بهذا الاصطفاف من قمة الهرم السياسي في واشنطن وكل عواصم أوروبا، وصولا إلى المؤسسات، التي تدير عصب الاقتصاد والملاحة والطاقة، من مصارف وشركات استيراد وتصدير ونقل وبث إعلامي، وصولا إلى شركات الملابس الرياضية ومازال العد جاريا. وتم أيضا إقصاء روسيا من كل المحافل الرياضية بكل فئاتها. حدث كل ذلك في لمح البصر، بل إن الأمر قد وصل حد المطالبة بسحب مقعد روسيا من العضوية الدائمة لمجلس الأمن الدولي. وسط هذا الصخب السياسي يتوقف المرء قليلا أمام عدد من التساؤلات، التي كثيرا ما طرحت على بساط البحث، من ضرورة إعادة النظر في تكوين مجلس الأمن، إلى إعادة تشكيل هيئة الأمم ذاتها، إلى المطالبة بتمثيل سياسي أكثر عدلا لدول الجنوب والقائمة تطول وتطول.

هذا حدث في بداياته الأولى، غير أنه بمقياس التاريخ يأتي لينهي حقبة من التعايش السلمي بين المنتصرين على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وهو نزاع بين قوى قد تبدو متشابهة لكنها مختلفة جذريا وإن انتمت لمعسكر غربي واحد. ولكن ولأن للغرب الكلمة الفصل في عالم اليوم، فإن هذه الحرب بوقائعها اليومية وسجالاتها، وما سيترتب عليها ستلقي بظلالها على كل أرجاء المعمورة. هل هو يا ترى استمرار لصراع روما الكاثوليكية ضد بيزنطة الأرثوذوكسية ووريثتها موسكو، عندما كان الاصطفاف دينيا في أوروبا القرون الوسطى؟ أم هو صراع روما الإمبراطورية ضد القبائل الجرمانية، التي اجتاحت القارة العجوز في بدايات العصور الوسطى؟ أم هو صراع أوروبا المتحضرة ضد القبائل القادمة من أعماق السهوب الآسيوية، أخذا في الاعتبار أن روسيا دولة معظم أراضيها آسيوية؟ أم هل هو صراع الغرب الرأسمالي ضد الشرق، الذي كان إلى الأمس القريب شيوعيا؟

خلاف الغرب مع روسيا خلاف أزلي. فلا الغرب تغير في عدائه مع هؤلاء السولاف الشرقيين، ولم تبد روسيا نفسها حماسة للتعايش الحضاري مع الغرب. لم يفهم الغرب أن الأراضي الروسية والأوكرانية أيضا كانت المسرح الأكثر دموية في أشرس حرب عرفها العالم، ولم يفهم الغرب أيضا قبل ذاك، أن نابليون بونابرت قد فر بجسده من روسيا بعد أن ذاق ويلات الهزيمة في مغامرته لاحتلال البلاد. إنه صراع التاريخ ضد الجغرافيا. التاريخ الذي لا يهدأ للغرب في صراعه مع الجغرافيا الحامية للروس، يتقدمها الجنرال ثلج كما اصطلح على تسميته من قبل المحللين العسكريين الغربيين.

يقال دوما إن الحرب وسيلة أخرى للسياسة. وفي هذا القول تفسير قد يبدو مبسطا، لكنه مقنعا على الأقل في سياق ما نعرفه من حقائق جيوسياسية عن أوروبا ذاتها والغرب عموما، وما تتناقله وسائل الإعلام. ترى هل سيكون اجتياح روسيا للأراضي الأوكرانية مشابها لاجتياح ألمانيا النازية لأراضي بولندا في أواخر ثلاثينيات القرن المنصرم، الذي أشعل الحرب الكونية الثانية، مما سيشعل حربا عالمية ثالثة لا سمح الله. بالرغم من قتامة المشهد، ومن علو أصوات طبول الحرب، لحظة بلحظة، فإن ذلك يبدو مستبعدا على الأقل حتى الآن. لكن العالم سيتغير حتما بعد هذا الحدث، وسيسجل اجتياح روسيا بوتين للأراضي الأوكرانية حدثا يؤرخ به.

Hanih@iau.edu.sa