في خضم التعالم، الذي ابتليت به أزمنتنا يصاب المرء بالذهول إذا قرأ في كتب الأخيار السابقين، الذين عاشوا في أشرف أزمنة الدنيا على الإطلاق، كالإمام أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والليث بن سعد، وغيرهم من أصحاب العقول الجبارة، التي يحق لنا أن نفاخر بهم أمم الأرض قاطبة.
من المضحكات المبكيات أن تقرأ تغريدات، هكذا يسمونها اليوم، وكأننا عصافير، تغريدات لبعض من ظن نفسه كفؤا لأن يبدي آراءه في قضايا كبرى، لو عرضت على أولئك الأئمة لاعتذروا عن القول فيها، ليس جهلا، وإنما لأنهم لم يبلغوا فيها درجة اليقين، الذي تطمئن إليه النفس. ولا يفهم هذا إلا العالمون. فقد تجد روائيا لا يجيد الإملاء، ويشتكي منه الإعراب، فكلامه عبارة عن كلمات متقاطعة، متناثرة، يغلفها أحيانا بشيء من الغموض ليوهم القارئ أنه يقرأ لطاليس، وسقراط وأفلاطون وأرسطو، وجوستاف لوبون، وهذا مسلك عقيم مكشوف، فيخوض في قضايا هي من صميم العلم الشرعي، ويتحذلق فيها بجهل مبكي، ويردد: أنا أرى، وأنا لا أرى، ولا ينبغي أن يكون كذا، وهذا الحديث لا يوافق عقلي!.
المذهل أن عباقرة الدنيا من علماء المسلمين كانوا في شأن عجيب، فهذا مالك شيخ دار الهجرة، الذي تضرب إليه أكباد الإبل، يأتيه مَن يستفتيه فيكون جوابه: لا أدري!. فيطير صواب السائل، كيف لا تدري وقد بلغت شهرتك الآفاق؟ وكل الناس يقولون مالك مالك؟! سافرت البلدان إليك، ماذا أقول إذا رجعت إلى بلدي؟! فقال: ارجع إلى بلدك، وقل: سألت مالكا، فقال: لا أدري.
حتى إن عالما في زمن مالك يقول: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثماني وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري!.
ومن المواقف، التي تقشعر منها الأبدان ما روى ابن عون قال: كنت عند القاسم بن محمد (والقاسم بن محمد بن أبي بكر أحد الفقهاء السبعة في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) إذ جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: «لا أحسنه» يعني: لا أدري. فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم بن محمد: «لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه»، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه، للقاسم بن محمد: يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم، فقال القاسم: «والله لأن يقطع لساني أحب إليّ من أن أتكلم بما لا علم لي به».
وفي زماننا هذا كان العلامة العظيم الشيخ عبدالعزيز بن باز ينهج هذا النهج إذا لم يكن يعلم أبعاد المسألة، وهو قد شهد له القاصي والداني بسعة العلم، سئل مرة: هل الملائكة يرون ربهم في الدنيا أم يوحى إليهم من وراء حجاب؟! قال الشيخ: الله أعلم. وسئل مرة أخرى: أيهما أفضل الأذان أم الإقامة؟ قال: الله أعلم. وسألته امرأة أن عندها أطفالا صغارا يطلبون منها أن تروي لهم قصصا فتتخيل قصصا من عندها ترويها لهم، فتقول: هل يعتبر هذا كذبا محرما؟! قال: لا أدري. ويسأله آخر: ما الحكمة من حل ميتة البحر؟! قال: الله أعلم.
مما أصابنا بالغثيان في هذه الآونة كثرة المتكلمين في كل فن، بعلم وبغير علم. والمحللين لكل قضية، حتى في حرب روسيا وأوكرانيا تسمع في مجالسنا العجب العجاب، وكأن المتحدث صديق (بوتين) المقرب!.
متى نسلم من كثرة الكلام في كل شيء؟! الجواب: لا أدري!
mhajjad@gmail.com
من المضحكات المبكيات أن تقرأ تغريدات، هكذا يسمونها اليوم، وكأننا عصافير، تغريدات لبعض من ظن نفسه كفؤا لأن يبدي آراءه في قضايا كبرى، لو عرضت على أولئك الأئمة لاعتذروا عن القول فيها، ليس جهلا، وإنما لأنهم لم يبلغوا فيها درجة اليقين، الذي تطمئن إليه النفس. ولا يفهم هذا إلا العالمون. فقد تجد روائيا لا يجيد الإملاء، ويشتكي منه الإعراب، فكلامه عبارة عن كلمات متقاطعة، متناثرة، يغلفها أحيانا بشيء من الغموض ليوهم القارئ أنه يقرأ لطاليس، وسقراط وأفلاطون وأرسطو، وجوستاف لوبون، وهذا مسلك عقيم مكشوف، فيخوض في قضايا هي من صميم العلم الشرعي، ويتحذلق فيها بجهل مبكي، ويردد: أنا أرى، وأنا لا أرى، ولا ينبغي أن يكون كذا، وهذا الحديث لا يوافق عقلي!.
المذهل أن عباقرة الدنيا من علماء المسلمين كانوا في شأن عجيب، فهذا مالك شيخ دار الهجرة، الذي تضرب إليه أكباد الإبل، يأتيه مَن يستفتيه فيكون جوابه: لا أدري!. فيطير صواب السائل، كيف لا تدري وقد بلغت شهرتك الآفاق؟ وكل الناس يقولون مالك مالك؟! سافرت البلدان إليك، ماذا أقول إذا رجعت إلى بلدي؟! فقال: ارجع إلى بلدك، وقل: سألت مالكا، فقال: لا أدري.
حتى إن عالما في زمن مالك يقول: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثماني وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري!.
ومن المواقف، التي تقشعر منها الأبدان ما روى ابن عون قال: كنت عند القاسم بن محمد (والقاسم بن محمد بن أبي بكر أحد الفقهاء السبعة في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-) إذ جاءه رجل فسأله عن شيء، فقال القاسم: «لا أحسنه» يعني: لا أدري. فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك لا أعرف غيرك. فقال القاسم بن محمد: «لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي والله ما أحسنه»، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه، للقاسم بن محمد: يا ابن أخي الزمها فوالله ما رأيتك في مجلس أنبل منك اليوم، فقال القاسم: «والله لأن يقطع لساني أحب إليّ من أن أتكلم بما لا علم لي به».
وفي زماننا هذا كان العلامة العظيم الشيخ عبدالعزيز بن باز ينهج هذا النهج إذا لم يكن يعلم أبعاد المسألة، وهو قد شهد له القاصي والداني بسعة العلم، سئل مرة: هل الملائكة يرون ربهم في الدنيا أم يوحى إليهم من وراء حجاب؟! قال الشيخ: الله أعلم. وسئل مرة أخرى: أيهما أفضل الأذان أم الإقامة؟ قال: الله أعلم. وسألته امرأة أن عندها أطفالا صغارا يطلبون منها أن تروي لهم قصصا فتتخيل قصصا من عندها ترويها لهم، فتقول: هل يعتبر هذا كذبا محرما؟! قال: لا أدري. ويسأله آخر: ما الحكمة من حل ميتة البحر؟! قال: الله أعلم.
مما أصابنا بالغثيان في هذه الآونة كثرة المتكلمين في كل فن، بعلم وبغير علم. والمحللين لكل قضية، حتى في حرب روسيا وأوكرانيا تسمع في مجالسنا العجب العجاب، وكأن المتحدث صديق (بوتين) المقرب!.
متى نسلم من كثرة الكلام في كل شيء؟! الجواب: لا أدري!
mhajjad@gmail.com