عبدالله العولقي

قبل الجائحة الكورونية، كان العالم يسير باتجاه عولمة كونية متكاملة لتتحقق التنبؤات بأن العالم أضحى قرية واحدة، لكن الجائحة وتداعياتها عصفت بالعولمة، وقلبت الأحداث رأسًا على عقب، وحوَّلت الشعوب والمجتمعات إلى أشباه جُزر معزولة عن بعضها، فتعطلت سلاسل الإمداد الاقتصادية وتكبّدت الشركات الكبرى خسائر فادحة، وضرب الركود مفاصل الاقتصاد العالمي، وشرع الحديث الإعلامي بجدية حول أفول عصر وزمن العولمة.

بيدَ أن أحداث أوكرانيا الأخيرة أعادت العولمة إلى الواجهة الدولية مرة أخرى، ليس على مستوى الأخبار والأحداث فحسب، وإنما على مستوى دوائر التأثير الدولي أيضًا، ففي السابق كانت الحروب إذا اندلعت فإن تأثيراتها لا تتجاوز محيطها الجغرافي، أما اليوم فتداعيات الأزمة الأوكرانية قد جعلت العالم يحبس أنفاسه هلعًا وخوفًا، فالجميع يدرك أن أي تهوّر نووي من قبل أحد أطراف الأزمة قد يُدخل البشرية في حرب عالمية ثالثة، ويهدد مستقبل الوجود البشري على سطح الأرض.

صورة أخرى للعولمة تتجلى حول مستقبل الأمن الغذائي العالمي لو طالت الحرب إلى أمد بعيد، فروسيا وأوكرانيا يمتلكان نصيب الأسد في إنتاج القمح العالمي، فتصنف موسكو أنها الأولى في تصدير القمح دوليًا، بينما تحتل أوكرانيا المرتبة الرابعة، وليس الأمن الغذائي وحده مهدّد في هذه الحرب، فأمن الطاقة مهدد أيضًا؛ كون روسيا هي الأعلى دوليًا في تصدير النفط، وهي المموّل الرئيسي للغاز تجاه أوروبا، ومن هنا تنعكس آثار هذه الأزمة عالميًا على أمن الطاقة والغذاء.

الصورة الثالثة للعولمة في هذه الأزمة تتضح من خلال علاقة الغرب بروسيا، فالولايات المتحدة وهي واجهة الغرب لا تستطيع ردع روسيا بالقوة، ولا تملك في مفاوضاتها مع موسكو سوى ورقة العقوبات الاقتصادية، والتي لا شك في أنها ستؤثر على اقتصاد روسيا، ولكنها لن تقضي عليه، فالعولمة الحديثة قد جعلت اقتصاديات العالم في حالة شبه متكاملة، بمعنى أن إيقاع أو فرض أي عقوبات اقتصادية على روسيا أو الصين لن تكون تداعياتها على موسكو وبكين فحسب، وإنما ستنعكس آثار تلك التداعيات والعقوبات على العالم أجمع بما فيهم الولايات المتحدة نفسها.

وفي الختام، يبدو أن العالم يشهد تحوّلات فرضتها العولمة وأحداث أفغانستان وأوكرانيا الأخيرة، وهذه الأحداث قد تأخذنا إلى واقع جديد ينبغي الاستعداد له، وهو يتشابه كثيرًا مع الأوضاع الدولية في القرون الوسطى، فخارطة التحالفات الدولية تتغيّر بصورة متسارعة، وفي مشهد متقلب تنعدم فيه مبادئ الثقة تمامًا، ولهذا تبقى المصالح الوطنية هي معيار العلاقات الدولية في المرحلة المقبلة، ولا شيء غير المصالح الوطنية.

@albakry1814