قد يبدو هذا المقال متأخرًا بعض الشيء عن سياقه الزمني، لكن سخونة ما يجري في الخاصرة الجنوبية للقارة الأوروبية هذه الأيام كانت السبب وراء ذلك.
قبل أكثر من أسبوعين، عاشت المملكة ذكرى يوم التأسيس، وقد انقضى بكل ما فيه. غير أن ما لفت الانتباه فيه ربما أكثر من أي شيء آخر، كان أنماط اللباس التي رافقت المحتفلين به، رجالًا ونساءً على حدٍّ سواء. لقد كان اليوم عرض أزياء بامتياز.
والحديث عن الأزياء عمومًا وأزياء مناطق المملكة في مناسبة كهذه حديث مفعَم بالشجون. حديث تمتزج فيه مبادئ الأصالة مع متطلبات الحداثة، حديث يجمع بين عراقة الماضي وتطلعات الحاضر والمستقبل. وهو في جانب كبير منه حديث الذكريات.
كان اللباس وما زال أحد أهم الظواهر الإنسانية التي ميّزت الإنسان في مسيرته الحضارية عبر التاريخ والجغرافيا. ولكل أمة في هذا السياق أزياء خاصة بها، منها ما انسحب إلى الظل، أمام سيل الحداثة الجارف، ومنها ما زال محتفظًا ببعض من بقاياه. انظر إلى الفضاء الصيني ترَ تفرُّد لباسه، وانظر كذلك إلى أزياء بدو السهوب الآسيوية الشاسعة امتدادًا من صحراء منغوليا وحتى حدود أوكرانيا، وانظر إلى القبعات التقليدية لدى شعوب القوقاز، وانظر إلى الثوب العربي بمختلف مسمياته من المحيط إلى الخليج. في كل هذه الفضاءات الجغرافية مترامية الأطراف ترى وحدة بصرية جمالية تعكس انتماءً واحدًا ولسانًا واحدًا وثقافة واحدة.
وكما هو الحال في اللباس يمكن قول الشيء ذاته عن البناء والبنيان.
وفي حقيقة الأمر، فإن الاثنين الأزياء والعمارة من أهم تجليات الفن الإنساني على مر العصور. إنهما وجهان لعملة واحدة. اللباس ستر، وكذلك هو البناء. اللباس زينة، وكذلك هي العمارة. الأزياء تعبّر عن هوية مرتديها، والعمارة تعبّر عن هوية ساكنيها. هكذا تشابَه الاثنان. هذه العلاقة الوثيقة بين هذين الوسيطين المختلفين ماديًا، المتحدرين من أب واحد (الأصل الثقافي الواحد) وأمهات مختلفات (معطيات الجغرافيا والأنثروبولجيا والثقافة والدين) هي ما يجعل العلاقة وثيقة بين الأزياء والعمارة.
كانت هذه العلاقة واضحة قبل اجتياح الحداثة؛ إذ كانت الأنسجة باختلاف استخداماتها ومسمياتها من شعب لآخر (من بسط وسجاجيد وأروقة للخيام ولباس للإنسان) متشابهة بصريًا مع عمائرها. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى. وحتى في عصر الحداثة نفسه، فقد اجتاحت موضة ال دي ستيل (الطراز)، الهولندية الأصل، عالم الأزياء بألوانها الثلاثة الأصفر والأزرق والأحمر، إضافة إلى الأبيض والأسود، إبان عشرينيات وثلاثينات القرن المنصرم. وفي مجتمع استهلاكي لا يكل ولا يمل عن اكتشاف كل ما هو جديد، أصبحت صناعة الأزياء من أهم سمات العصر الحديث.
لقد كشفت لنا أزياء يوم التأسيس مَعينًا لا ينضب من تراث أصيل يمكن استلهامه، ليس في صناعة الأزياء فقط، ولكن في العمارة أيضًا. صحيح أن بعضًا ليس بالقليل من تلك الأزياء قد طالته يد الحداثة والتغيير، لكن تلك العروض التي طافت ميادين الاحتفالات في كل أرجاء المملكة كانت أكثر من مبهرة. وكانت هناك ألوان وأنماط هندسية وألبسة، لكل منها مسمّاه ولونه واستخدامه. كان هناك ثراء بصري وكأنه تم اكتشافه لأول مرة. وكان لكل منطقة زيّها الخاص. فترى كل ألوان الطيف في اللبس العسيري، وكأنه انعكاس للغطاء النباتي مختلف الألوان في المنطقة.
فيما ترى الأشكال الهندسية وألوان الصحراء وأنماط السدو في أزياء المنطقة الوسطى، وفي المنطقة الغربية ترى مختلف أنواع التطريز المقصّب والمبروم والعمائم، وفي أزياء الشمال تكشف أصول الأزياء الصوفية بألوانها وخطوطها عن نفسها المتحدرة من الخيمة العربية الأصيلة وهكذا. إنه لحريٌّ بنا أن نستلهم هذا التراث في أزيائنا وعمائرنا.
يقول المَثل العامّي: «كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس». هذا المَثل لم يأتِ من فراغ. فإظهار الزينة بالرغم من أنه حق شخصي، لكن الاهتمام بالجانب الاجتماعي ضرورة ملحَّة. إنه مطلب حضاري قبل أن يكون رغبة فردية.
Hanih@iau.edu.sa
قبل أكثر من أسبوعين، عاشت المملكة ذكرى يوم التأسيس، وقد انقضى بكل ما فيه. غير أن ما لفت الانتباه فيه ربما أكثر من أي شيء آخر، كان أنماط اللباس التي رافقت المحتفلين به، رجالًا ونساءً على حدٍّ سواء. لقد كان اليوم عرض أزياء بامتياز.
والحديث عن الأزياء عمومًا وأزياء مناطق المملكة في مناسبة كهذه حديث مفعَم بالشجون. حديث تمتزج فيه مبادئ الأصالة مع متطلبات الحداثة، حديث يجمع بين عراقة الماضي وتطلعات الحاضر والمستقبل. وهو في جانب كبير منه حديث الذكريات.
كان اللباس وما زال أحد أهم الظواهر الإنسانية التي ميّزت الإنسان في مسيرته الحضارية عبر التاريخ والجغرافيا. ولكل أمة في هذا السياق أزياء خاصة بها، منها ما انسحب إلى الظل، أمام سيل الحداثة الجارف، ومنها ما زال محتفظًا ببعض من بقاياه. انظر إلى الفضاء الصيني ترَ تفرُّد لباسه، وانظر كذلك إلى أزياء بدو السهوب الآسيوية الشاسعة امتدادًا من صحراء منغوليا وحتى حدود أوكرانيا، وانظر إلى القبعات التقليدية لدى شعوب القوقاز، وانظر إلى الثوب العربي بمختلف مسمياته من المحيط إلى الخليج. في كل هذه الفضاءات الجغرافية مترامية الأطراف ترى وحدة بصرية جمالية تعكس انتماءً واحدًا ولسانًا واحدًا وثقافة واحدة.
وكما هو الحال في اللباس يمكن قول الشيء ذاته عن البناء والبنيان.
وفي حقيقة الأمر، فإن الاثنين الأزياء والعمارة من أهم تجليات الفن الإنساني على مر العصور. إنهما وجهان لعملة واحدة. اللباس ستر، وكذلك هو البناء. اللباس زينة، وكذلك هي العمارة. الأزياء تعبّر عن هوية مرتديها، والعمارة تعبّر عن هوية ساكنيها. هكذا تشابَه الاثنان. هذه العلاقة الوثيقة بين هذين الوسيطين المختلفين ماديًا، المتحدرين من أب واحد (الأصل الثقافي الواحد) وأمهات مختلفات (معطيات الجغرافيا والأنثروبولجيا والثقافة والدين) هي ما يجعل العلاقة وثيقة بين الأزياء والعمارة.
كانت هذه العلاقة واضحة قبل اجتياح الحداثة؛ إذ كانت الأنسجة باختلاف استخداماتها ومسمياتها من شعب لآخر (من بسط وسجاجيد وأروقة للخيام ولباس للإنسان) متشابهة بصريًا مع عمائرها. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى. وحتى في عصر الحداثة نفسه، فقد اجتاحت موضة ال دي ستيل (الطراز)، الهولندية الأصل، عالم الأزياء بألوانها الثلاثة الأصفر والأزرق والأحمر، إضافة إلى الأبيض والأسود، إبان عشرينيات وثلاثينات القرن المنصرم. وفي مجتمع استهلاكي لا يكل ولا يمل عن اكتشاف كل ما هو جديد، أصبحت صناعة الأزياء من أهم سمات العصر الحديث.
لقد كشفت لنا أزياء يوم التأسيس مَعينًا لا ينضب من تراث أصيل يمكن استلهامه، ليس في صناعة الأزياء فقط، ولكن في العمارة أيضًا. صحيح أن بعضًا ليس بالقليل من تلك الأزياء قد طالته يد الحداثة والتغيير، لكن تلك العروض التي طافت ميادين الاحتفالات في كل أرجاء المملكة كانت أكثر من مبهرة. وكانت هناك ألوان وأنماط هندسية وألبسة، لكل منها مسمّاه ولونه واستخدامه. كان هناك ثراء بصري وكأنه تم اكتشافه لأول مرة. وكان لكل منطقة زيّها الخاص. فترى كل ألوان الطيف في اللبس العسيري، وكأنه انعكاس للغطاء النباتي مختلف الألوان في المنطقة.
فيما ترى الأشكال الهندسية وألوان الصحراء وأنماط السدو في أزياء المنطقة الوسطى، وفي المنطقة الغربية ترى مختلف أنواع التطريز المقصّب والمبروم والعمائم، وفي أزياء الشمال تكشف أصول الأزياء الصوفية بألوانها وخطوطها عن نفسها المتحدرة من الخيمة العربية الأصيلة وهكذا. إنه لحريٌّ بنا أن نستلهم هذا التراث في أزيائنا وعمائرنا.
يقول المَثل العامّي: «كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس». هذا المَثل لم يأتِ من فراغ. فإظهار الزينة بالرغم من أنه حق شخصي، لكن الاهتمام بالجانب الاجتماعي ضرورة ملحَّة. إنه مطلب حضاري قبل أن يكون رغبة فردية.
Hanih@iau.edu.sa