د. محمد حامد الغامدي

• حنطة البلاد. هكذا عرفت اسم القمح في صغري. كان النّاس في قريتي متفرغين لزراعته سنويا وعبر الأجيال. كان صحن الوادي بمدرجاته كالسرير الأخضر من أعلاه إلى أسفله وبطول يزيد على اثنين كيلو متر، بعرض حوالي الكيلو متر. وادي متعرج بين الجبال كجسم الثعبان. توارثوا في هذا الوادي إتقان مهارات زراعته، وانتخبوا أصنافا مناسبة للبيئة. فهناك (القمح المسقوي) الذي يتم ريه بالمياه المتجددة من آبار تقليدية أحسنوا اختيار مواقعها. وهناك (القمح العثّري) الذي يعتمد على ماء المطر وبشكل مباشر.

• غادرت القرية شابا عام (1971م) وهي تمارس هذه الزراعة كمهنة عائلية، ورجعت إليها بعد ربع قرن فوجدت أن رياح التغيير طالتها فتصحر الوادي. غابت الزراعة وكنتيجة تصحرت بلاد الحنطة وجفت آبارها ومياه جداول واديها وغدرناها. وهاجر أهلها الشباب واندثرت المهارات الزراعية مع موت أصحابها من الحكماء كبار السن أهل الخبرة والعطاء. تحولت المساحات الزراعية التقليدية تراثا شكل حملا ثقيلا على الأجيال لا ينتفعون من مساحاتها. وأمام إهمالها بدأت في التهدم والزوال. ماذا خسرت الأجيال القادمة في ظل وضع تتسع تحدياته ومشاكله؟

• باختصار شديد -أرجو أن يكون غير مخل- أصبحت زراعة القمح صناعة جديدة في مناطق الصخور الرسوبية. بتجربة حديثة واندفاع لم تشهده شبه الجزيرة العربية من قبل. فأصبحت حياتي العملية والعلمية أثناء وبعد الدكتوراة وقفا على تحديات المياه والزراعة بسبب هذه التجربة. وأحسب نفسي فارسا ناضل بشرف من أجل الماء في ظل المد الزراعي الجائر بتطلعاته وطموحاته على مخزونه الجوفي الإستراتيجي.

• فكان كتابي المرجعي العلمي، الذي تبنته جامعة الملك فيصل مشكورة، بعنوان: التوسع في زراعة القمح والشعير والأعلاف خلال خطط التنمية الخمس الأولى (1970 1995م) وأثره على المياه الجوفية في المملكة العربية السعودية . ليوثق تجربة الزراعة الفريدة والاستثنائية في بيئة جافة تشح فيها موارد المياه. كتاب رصد التجربة وحمل حصيلة من عبر ودرس التجربة عبر (74) جدولا في تسعة أبواب. الكتاب نحت تطلعات تعتمد على المعلومات والبيانات الموثقة. وهنا يجدر بشخصي القول: إن للمعلومات الموثقة كثيرا من الفوائد، من أهمها: زيادة فرص النجاح مستقبلا، وذلك بتقليل وتقليص حزم المشكلات والتحديات والمخاطر.

• مع حرب (روسيا - أوكرانيا) طفت الأسئلة أمامي بشكل قوي عن الجوع في غياب القمح أو شح كمياته بسبب هذه الحرب. وتذكرت مثل العرب الذي يقول: (لا أحد يعير سرب بيته وقت المطر). معها -أيضا- تذكرت تجربتنا مع زراعة القمح وتساءلت: أين الخلل؟ أيضا أين الخلل في العالم العربي برمته؟ وتذكرت مثل قريتي الذي يردده كبار السن أمام ناشئتهم: لو حسّب الزرّاع ما زرع.

• في هذه السلسلة من المقالات استعرض بعض المعلومات -أيضا- بعض مما كتبت من أفكار علمية خلال العقود الماضية عن الزراعة وعلاقتها بالماء. وجاء السؤال الطامة: أيهما أهم الماء أم زراعة القمح؟ واستعرضت أمام نفسي وتفكيري كثيرا من الأنظمة والقرارات. فتساءلت: هل استوعبنا تجربة زراعة القمح ودروسها وعبرها؟ من المفيد -أيضا- أن أقول: إن شخصي عارض جملة وتفصيلا تجربة الزراعة الخارجية، وكتبت عنها الكثير. عشت خلال العقود الماضية صراع التحدي والأفكار وقدمت كثيرا من الرأي حول كل ما يتعلق بالماء والزراعة. كنت أكتب وأجد بعضها تم تبنّيه بعد عقدين أو ثلاثة من وقت طرحه أمام المواطن والمسؤول. فماذا يعني هذا؟

• اليوم وسط رفع سعر شراء القمح المحلي إلى (1.7) ريال للكيلو بزيادة عن سعره العالمي جاءت فكرة هذه المقالات، التي سأطرحها أمامكم. وقبل ذلك أطرح السؤال الأهم: هل هذا التصرف سليم؟ لماذا ندفع سعرا أعلى والقمح متوافر عالميا أمامنا بسعر أقل؟ هل بهذا نعود إلى مربع الطفرة الأول؟ ولماذا؟ ويستمر الحديث بعنوان آخر.

@DrAlghamdiMH