أ. د. هاني القحطاني

Hanih@iau.edu.sa

للمؤرخ البريطاني إريك هوبزباوم ثلاثية مشهورة أصبحت من كلاسيكيات التاريخ الحديث وهي تباعا: عصر الثورة 1789-1848، وعصر رأس المال 1848-1875، وعصر الإمبراطورية 1875-1914، وقد أردفها قبل وفاته في عام 2012 بإصدار رابع حمل عنوان عصر التطرفات 1914-1991.

كان بود المرء التنزه في هذه الكتب، هذه المجلدات الرائعة، هذه التحف التي تجعل من التاريخ ليس مجرد تعاقب أحداث وتسجيلها. هذه السلسلة الرباعية تحلل التاريخ وتفسره بأسلوب بسيط ممتع يرتقي به إلى درجة الأدب. غير أن جني قطاف تلك الثمار اليانعة يضيق بها المقال الصحفي. هذا الإبداع في الطرح والعمق في المضمون والسلاسة في السرد، أين منه مؤرخونا المعاصرون، وأين مثل هذه الكتب عن مناهجنا الدراسية.

عند قراءة هذه الكتب يستذكر المرء ما يعيشه العالم اليوم على وقع ما يجري في أوروبا. فمع كل حدث جلل يحضر التاريخ بكل وقاره وشموخه ومخزونه من الأحداث، التي يبدو وكأنها تكرر نفسها باختلاف الأماكن والأشخاص. ليس هنا مكان استقراء المستقبل، وكما قال المؤرخ الفذ، فالمؤرخ موضوعه الماضي والحاضر، أما المستقبل فلا.

في أي عصر نعيش، وماذا نسميه؟. تتعدد الإجابات بتعدد الناس وخلفياتهم. ففي مجال المعلوماتية يمكن إطلاق تسميات على غرار عصر الإنترنت، عصر الهاتف المحمول. وفي مجال التقنية يمكن تسميته بعصر الرقائق الإلكترونية، وعصر كل ما هو رقمي. والتقنية والمعلوماتية وجهان لعملة واحدة في منشأهما ومآلاتهما وبالتالي في تسمياتهما. وفي مجال الاقتصاد نعيش في عصر الشركات العابرة للقارات، عصر التسوق عبر الإنترنت، ومتجر أمازون الرقمي وكل شركات الدفع الإلكتروني. وفي المجال الاجتماعي، يمكن تسميته بعصر القرية الكونية الواحدة، فقد حل الفيسبوك والإنستجرام والتيك توك ومجموعات الواتساب محل القرية والقبيلة والحارة والمدينة. لقد أصبح الإنسان كائنا رقميا رغم أنفه.

كيف يمكن وضع هذه التسميات ضمن ما يحدث اليوم في أوكرانيا؟. من وجهة نظر المؤرخ، أحداث اليوم مرتبطة بأحداث الأمس، كما أن أحداث الغد مرتبطة بأحداث اليوم. فقد خلفت الحرب العالمية الثانية عالما من الواضح بعد مرور ما يزيد على سبعة عقود من وضع الحرب لأوزارها، أن هذه الحرب ونتائجها وإفرازاتها قد خلفت عالما بعيدا كلية عن الاستقرار الأمثل للمجتمعات. ومع ذلك فقد اتسمت تلك العقود السبعة بنمط من التعايش الهش. إنه تعايش المضطرين، لا تعايش الراغبين. هو تعايش مع واقع فرضه المنتصرون في تلك الحرب. فقد تعايشت أوروبا وهي بؤرة الحرب وصانعتها والمتضرر الأكبر منها مع ذاتها، مرغمة على ذلك، وسط قوتين عملاقتين، لم تجد إلى الآن المعادلة السحرية للانفكاك من قبضتيهما.

خارج أوروبا وبالرغم من العراقيل التي تضعها الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة في سبيل الصعود الاقتصادي الصاروخي للصين، إلا أن هناك تعايشا هشا بينهما يستند في الأساس على تقاليد سلم صينية، مستمدة من تاريخها العتيق. وبالرغم من كثرة حروب الشرق الأوسط في العقود الأخيرة وموجات الربيع العربي وارتداداته، فقد بقيت هذه الأحداث على أهميتها إقليمية فحسب. في عالم ما بعد الحرب تعايش الكل مع الكل. تعايش العرب مع اليهود، وتعايش الهندوس مع المسلمين، وتعايش البيض مع السود في جنوب أفريقيا، وتعايشت حكومات أمريكا الجنوبية مع كارتيلات الجريمة والعصابات المسلحة. معظم هذه التعايشات هي تعايشات سلبية فرضها واقع غير مرضٍ عنه من قبل كافة الأطراف.

يذكر التاريخ أن شرارة الحرب العالمية الأولى قدحت في البلقان. كما أن سهول بولندا شهدت تدشين أتون الحرب العالمية الثانية. بين البلقان وبولندا تقع بلاد الأوكران. ترى هل ستكون سهول أوكرانيا، وهي التي شهدت أكبر معركة دبابات في التاريخ بين السوفييت والألمان (معركة كورسك) بداية ما أصبح يتردد هذه الأيام -لا سمح الله- عن حرب عالمية ثالثة؟.