د. شلاش الضبعان

تقول العرب: أحلم من الأحنف بن قيس، ومن قيس بن عاصم، وأجود من حاتم الطائي، ومن كعب بن أمامة، وأشجع من بَسطام، وأبين من سُحبان وائل، وأرمى من ابن ثقن، وأعلم من دَغفل.

هذه نماذج مرت في التاريخ وحُفظ لها تميزها، فهل خلونا من المتميزين، الذين يؤرخ لهم وتُخلّد أسماؤهم؟

لا! طبعاً ففي عالمنا اليوم الحليم والكريم والشجاع والفصيح والعالم والمفكر ممن يستحق بقاء الذكر، ولكن هناك ثلاثة جوانب ذات علاقة بالموضوع:

الجانب الأول: هناك تقصير منا في إظهار القدوات الحقيقيين وبيان تميزهم، بل إن الأخطر من ذلك أن هناك قلباً للهرم وتقديم مَن لا يستحق التقديم أحياناً، وفي هذا جناية كبيرة على جيلنا أمام الأجيال القادمة، التي ستعرف جيلنا من خلال رموزه، كما عرفنا الأجيال السابقة من خلال رموزها، ما أخشاه أن يقال: أردى من فلان، وأجبن من فلان، وأكبر فضيحة من فضيحة فلان.

الجانب الثاني: الحكم للتاريخ، فالمعاصر يضعف الاهتمام فيه من معاصريه، بل ربما حسدوه، ولكن إذا ترك إنتاجاً يستحق في مجاله، ستأتي الأجيال القادمة وتثني عليه، وتذكر له مكارمه حتى لو كان عنده جوانب لا تُرضى، ومَن من البشر الكامل؟!، والمذكورون في بداية المقال كان لكل منهم هنّات ولكن غلبت مكارمهم.

الجانب الثالث: مهما قلنا، ومهما قالوا، يظل التخليد الحقيقي والباقي هو ما عند الله جل جلاله، ولذلك على المتميز ألا يحرص على ثناء معاصريه ولاحقيه، بل يحرص على رضا الله سبحانه بأن يترك ما يشرّف ويكون حجة له لا عليه، وهذا هو الفوز والخلود الحقيقي.

من قصص الأحنف أنه قيل له: بم سودوك؟ قال: لو عاب الناس الماء لم أشربه، وسئل: ممَّن تعلمتَ الحِلم؟ قال: مِن قيس بن عاصم، رأيتُه قاعدًا بفناء داره، محتبيًا بحمائل سيفِه، يُحدِّث قومه، حتى أُتي برجل مكتوف، ورجل مقتول، فقيل له: هذا ابنُ أخيك قَتَل ابنَك، فو الله ما حلَّ حُبوتَه، ولا قطع كلامه، ثم التفتَ إلى ابن أخيه، وقال: يا ابنَ أخي، أسأتَ إلى رَحِمك، ورميتَ نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمِّك، ثم قال لابنٍ له آخر: قُمْ يا بني، فحلَّ كتاف ابن عمِّك، ووارِ أخاك، وسُقْ إلى أمِّه مائةَ ناقة دية ابنها، فإنها غريبة.

الغريب أن العرب لم تقل: أعقل من فلان، فلعلهم لم يستكملوا عقل أحد.

@shlash2020