عبدالله العولقي

لم تحرك موسكو ساكنا حينما انضمت دول البلطيق الثلاث استونيا ولاتفيا وليتوانيا إلى حلف الناتو، فلماذا غضبت موسكو من تقارب أوكرانيا مع الغرب وخشيت من انضمامها مع الحلف الأمريكي؟، هل للأمر علاقة بأن دول البلطيق تقع خارج نطاق الثقافة الروسية الأرثوذكسية على عكس أوكرانيا التي تعتبرها موسكو جزءا تابعا لذات الثقافة والهوية؟، وفي المقابل هل نفسر تقارب الأوكرانيين مع الغرب هروبا من تبعية الهوية تجاه روسيا؟!!.

هذه الرؤية تعيدنا بالفعل إلى قراءة أفكار المؤرخ الأمريكي الشهير صموئيل هنتنجتون ورؤيته المبكرة حول تصادم الهويات والثقافات العالمية، وأذكر حينها الهجوم اللاذع الذي شنه بعض الكتّاب والمفكرين العرب تجاه نظرية هنتنجتون باعتبار أطروحته ترفض التعايش بين الثقافات من وجهة نظرهم، بينما واقع طرحه ينص أن التعددية الحضارية حقيقة ثابتة، وأن الحضارة الغربية ليست هي النموذج الحضاري الوحيد، ولا تمثل أيضا النموذج المثالي الذي تلهث المجتمعات البشرية تجاهه، ومن هذا المنطلق يجب على الغرب أن يقبل بهذه التعددية الحضارية، وأن يتخلى عن سعيه الدؤوب من أجل فرض أنموذجه الثقافي على الحضارات الأخرى، ولكن واقع اليوم يؤكد أن سلوك الغرب لا يزال يطبق فكرة الوصاية على العالم، ويروج لثقافته كحضارة وحيدة يجب أن تكتسح الثقافات المجتمعية الأخرى، وبصورة مماثلة، هذا ما تفعله روسيا أيضا مع أوكرانيا.

أوروبا هي السبب الأول في اندلاع الحربين العالميتين الماضيتين، وقبل عدة سنوات تزايدت المخاوف الإعلامية من اندلاع حرب ثالثة كون الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا تمكنت من بلوغ سدة الحكم في بعض العواصم الأوروبية كتكرار زمني لنفس مسببات الحروب السابقة، ومما لا يخفى أن منهجية التطرف الحزبي هي صورة جلية لواقع صراع الهوية والثقافة في أوروبا.

قبل أكثر من نصف قرن تقريبا، تنبأ الكاتب الروسي الشهير إلكسندر سولجنتسين بالأوضاع الحالية، وقال مقولته الشهيرة: يؤسفني أن أكتب هذا، في حين أن روسيا وأوكرانيا تمتزجان في دمي وقلبي وروحي، فوالدي روسي وأمي أوكرانية، ولكني مصدوم من الحوارات واللقاءات، التي أجريتها مع الأوكرانيين وأثبتت لي مدى الكراهية، التي يحملونها ضد الروس!!.

وفي الختام،، لا شك أن الأسباب الرئيسية في الأزمات والعلاقات الدولية تتمحور حول المصالح السياسية والاقتصادية كعوامل محركة للصراعات البينية بيد أن الحديث هنا عن عامل آخر مهم لا يقل أهمية عن العامل الأساسي وهو صدام الهوية والثقافة بين المجتمعات البشرية، ولعل الأزمة الأوكرانية الحالية تمثل دلالة على ذلك.

@albakry1814