عندما أطالع أخبار مَن ألَّفوا الكتب في العصور المتقدمة خصوصًا أيام المحبرة! أتعجب كل العجب كيف كانوا يجدون الوقت لكتابة هذا العدد الضخم من المجلدات.
في بعض الأحيان أقول لنفسي: ربما هناك مبالغة في النقل وتهويل في الكلام، ولكن حين أنظر إلى النسق العام أجده أقرب إلى الواقع والحقيقة منه إلى الخيال، خاصة أن الأرقام عمومًا تؤكد ذلك.
ولعلي أضرب بعضًا من الأمثلة حتى تتفاجؤوا بالأرقام، كما حدث لي. وسوف أشرح لكم لماذا كنتُ مندهشًا من تلك الهِمم والإنجازات المُذهلة على صعيد التأليف والكتابة.
ولنبدأ مثلًا بابن حجر العسقلاني، فله (200) مصنف، منها كتاب «فتح الباري شرح صحيح البخاري» ألَّفه خلال (25) سنة. وأما كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة» فاستغرق منه (40) سنة، وهو عبارة عن ترجمة (12500) صحابي.
وأما الإمام الذهبي فله كتاب «تاريخ الإسلام» في (50) مجلدًا (تراجم لأربعين ألف شخصية مشهورة) في (70) طبقة. وله كتاب «سِيَر أعلام النبلاء» وفيه ترجمة لما يقرب من (6860) شخصًا.
وتجدر الإشارة إلى أن أكبر كتاب من حيث الحجم هو «كتاب الفنون» لأبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي ويقع في (800) مجلد. وابن الجوزي يُذكر أنه امتلك منه فقط (150) مجلدًا!
أعلم أن مقدمة المقال قد ازدحمت بكثرة الأرقام ما بين عدد سنوات تأليف وعدد المجلدات، ولكن الآن تصوروا معي المشهد ككل. فهؤلاء كانت لديهم ارتباطات أخرى مثل: المحاضرات والدروس اليومية. وفي زمنهم لم يكن لديهم حاسوب، ولا إنترنت، ولا حتى قلم رصاص! من أجل سرعة الكتابة، وسهولة تعديل الأخطاء. وتخيَّلوا معي أيضًا أن ما كانوا يملكونه هو محبرة وقطعة خشب (تسمى قلمًا)، حيث يضعون القلم في المحبرة ثم يكتبون، وهكذا دواليك.. لآلاف المرات. فكم تستغرق كتابة الكلمة فضلًا عن الجملة؟! بل أعظم من ذلك قضية البحث بين أطنان من الكتب للمراجعة والتدقيق والنقل. ثم تذكّروا كذلك أنه لم تكن متوافرة لديهم الإضاءة ليلًا سوى شمعة أو قنديل! وهم لا يملكون مكتبًا، ولا كرسيًّا مريحًا! ولا توجد لديهم مكيفات للتبريد صيفًا ولا للتدفئة شتاءً! ومنهم مَن هو فقير ومعدوم الحال. بالإضافة إلى المشاكل الأسرية والاجتماعية والاقتصادية. فهل تخيَّلتم حقًا المشهد كاملًا؟ وعشتم الأجواء التي عاشوها، وأحسستم بحياة المعاناة. ومع هذا كله كانوا ينتجون الآلاف من الأوراق كتابة باليد! فأخبروني بالله عليكم: كيف يجدون الوقت؟ هل كانوا يملكون (48) ساعة في اليوم الواحد؟!، بل ما هو الوقود الدافع لهذه العزائم والهِمم؟.
حين أراد الإمام الطبري كتابة التاريخ، سأله تلاميذه في كم يقع يا مولانا (يعني كم صفحة) فقال لهم: في ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: إذن تفنى الأعمار! فرد عليهم قائلًا: ماتت الهِمم. فكتبه الإمام في (3000) صفحة (هذا بعد الاختصار). والكتاب اليوم يُعرف باسم (تاريخ الطبري).
فهل تساءلتم أيها القراء الكرام: لماذا كتبتُ هذا المقال؟؛ لأنني أنتقد نفسي كثيرًا حين أتكاسل عن كتابة صفحة مقال أو أتثاقل عن تأليف كتاب لا يتعدى (200) صفحة!!
وبالمناسبة عندما كنتُ أقرأ كتاب تاريخ الطبري كنتُ أترحَّم عليه حين أتقاعس عن قراءة (3000) صفحة، وهو الذي كتبها باستخدام المحبرة. فأرجع وأعاتب نفسي وأقول لها: ماتت الهِمَم!
ليس المراد أن يتحوَّل المقال إلى جلد للذات أو تثبيط للعزائم والهِمَم، ولكن على العكس من ذلك، فحين يكتب الواحد منا مقالًا أو بحثًا جامعيًا أو يؤلف كتابًا وحتى حين يؤدي واجبًا مدرسيًا فليتذكر هؤلاء الجهابذة، ويردد: ما زالت هناك هِمَم!
abdullaghannam@
في بعض الأحيان أقول لنفسي: ربما هناك مبالغة في النقل وتهويل في الكلام، ولكن حين أنظر إلى النسق العام أجده أقرب إلى الواقع والحقيقة منه إلى الخيال، خاصة أن الأرقام عمومًا تؤكد ذلك.
ولعلي أضرب بعضًا من الأمثلة حتى تتفاجؤوا بالأرقام، كما حدث لي. وسوف أشرح لكم لماذا كنتُ مندهشًا من تلك الهِمم والإنجازات المُذهلة على صعيد التأليف والكتابة.
ولنبدأ مثلًا بابن حجر العسقلاني، فله (200) مصنف، منها كتاب «فتح الباري شرح صحيح البخاري» ألَّفه خلال (25) سنة. وأما كتابه «الإصابة في تمييز الصحابة» فاستغرق منه (40) سنة، وهو عبارة عن ترجمة (12500) صحابي.
وأما الإمام الذهبي فله كتاب «تاريخ الإسلام» في (50) مجلدًا (تراجم لأربعين ألف شخصية مشهورة) في (70) طبقة. وله كتاب «سِيَر أعلام النبلاء» وفيه ترجمة لما يقرب من (6860) شخصًا.
وتجدر الإشارة إلى أن أكبر كتاب من حيث الحجم هو «كتاب الفنون» لأبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي ويقع في (800) مجلد. وابن الجوزي يُذكر أنه امتلك منه فقط (150) مجلدًا!
أعلم أن مقدمة المقال قد ازدحمت بكثرة الأرقام ما بين عدد سنوات تأليف وعدد المجلدات، ولكن الآن تصوروا معي المشهد ككل. فهؤلاء كانت لديهم ارتباطات أخرى مثل: المحاضرات والدروس اليومية. وفي زمنهم لم يكن لديهم حاسوب، ولا إنترنت، ولا حتى قلم رصاص! من أجل سرعة الكتابة، وسهولة تعديل الأخطاء. وتخيَّلوا معي أيضًا أن ما كانوا يملكونه هو محبرة وقطعة خشب (تسمى قلمًا)، حيث يضعون القلم في المحبرة ثم يكتبون، وهكذا دواليك.. لآلاف المرات. فكم تستغرق كتابة الكلمة فضلًا عن الجملة؟! بل أعظم من ذلك قضية البحث بين أطنان من الكتب للمراجعة والتدقيق والنقل. ثم تذكّروا كذلك أنه لم تكن متوافرة لديهم الإضاءة ليلًا سوى شمعة أو قنديل! وهم لا يملكون مكتبًا، ولا كرسيًّا مريحًا! ولا توجد لديهم مكيفات للتبريد صيفًا ولا للتدفئة شتاءً! ومنهم مَن هو فقير ومعدوم الحال. بالإضافة إلى المشاكل الأسرية والاجتماعية والاقتصادية. فهل تخيَّلتم حقًا المشهد كاملًا؟ وعشتم الأجواء التي عاشوها، وأحسستم بحياة المعاناة. ومع هذا كله كانوا ينتجون الآلاف من الأوراق كتابة باليد! فأخبروني بالله عليكم: كيف يجدون الوقت؟ هل كانوا يملكون (48) ساعة في اليوم الواحد؟!، بل ما هو الوقود الدافع لهذه العزائم والهِمم؟.
حين أراد الإمام الطبري كتابة التاريخ، سأله تلاميذه في كم يقع يا مولانا (يعني كم صفحة) فقال لهم: في ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: إذن تفنى الأعمار! فرد عليهم قائلًا: ماتت الهِمم. فكتبه الإمام في (3000) صفحة (هذا بعد الاختصار). والكتاب اليوم يُعرف باسم (تاريخ الطبري).
فهل تساءلتم أيها القراء الكرام: لماذا كتبتُ هذا المقال؟؛ لأنني أنتقد نفسي كثيرًا حين أتكاسل عن كتابة صفحة مقال أو أتثاقل عن تأليف كتاب لا يتعدى (200) صفحة!!
وبالمناسبة عندما كنتُ أقرأ كتاب تاريخ الطبري كنتُ أترحَّم عليه حين أتقاعس عن قراءة (3000) صفحة، وهو الذي كتبها باستخدام المحبرة. فأرجع وأعاتب نفسي وأقول لها: ماتت الهِمَم!
ليس المراد أن يتحوَّل المقال إلى جلد للذات أو تثبيط للعزائم والهِمَم، ولكن على العكس من ذلك، فحين يكتب الواحد منا مقالًا أو بحثًا جامعيًا أو يؤلف كتابًا وحتى حين يؤدي واجبًا مدرسيًا فليتذكر هؤلاء الجهابذة، ويردد: ما زالت هناك هِمَم!
abdullaghannam@