أ.د. هاني القحطاني

من بين كل ملوك ما كان يعرف تاريخيا ببلاد الرافدين (العراق حاليا) ربما كان حمورابي أشهر هؤلاء الملوك، الذين حكموا تلك البلاد الموغلة في القدم ولسبب وجيه. فقد عرف بشريعته «شريعة أو كود حمورابي»، وهي عبارة عن تعاليم وقوانين تشريعية تنظم جوانب مختلفة من حياة الناس. وبمقاييس اليوم، فإن تلك القوانين بالغة القسوة. وبغض النظر عن ذلك، إلا أن شريعة حمورابي تظل أقدم وثيقة قانونية من نوعها في التاريخ المدون، وهي تعود لأكثر من 3800 عام. وفي دلالة على أهميتها، فإن نسخة منها تزين مبنى الأمم المتحدة في نيويورك، وقد أهداها العراق للمنظمة الدولية عام 1977م، في حين أن النصب الأصلي، الذي سجلت عليه تلك الشريعة موجود اليوم بمتحف اللوفر في باريس.

الطريف في الأمر أن شريعة حمورابي قد أتت بالتفصيل على قطاع البناء والإنشاءات، وقد خصته بجانب لا بأس به من التشريعات، التي تؤكد مبدأ ما يعرف بـ «السن بالسن والجروح قصاص». ومن هنا نبدأ:

لا حديث اليوم لمَن يهم بالبناء أو مَن له علاقة بقطاع الإنشاءات من قريب أو بعيد، إلا عن كود البناء، الذي أصبح المظلة القانونية والتشريعية والمهنية، التي تنظم آليات البناء والإنشاءات في المملكة. فعن طريق الكود تبدأ عملية البناء منذ استصدار الترخيص، وصولا إلى استلام البناء، أيا كان نوعه وحجمه، مرورا بكل تفاصيل البناء من بابه لمحرابه.

الكود -أي كود كان- الهدف منه تقنين وتنظيم ما صدر الكود بحقه. وهو في هذا مطلب ملح لأي مجتمع، خصوصا لمجتمع العمارة والإنشاءات. وتزداد أهميته بازدياد الناس وتوسع العمران والتنمية، التي لا تتوقف أبدا. وفي حقيقة الأمر، فقد كان كود البناء مطلبا ملحا لكثير من المختصين في البناء من معماريين، ومهندسين، وقانونيين، وغيرهم. وقد استغرق إصدار الكود سنوات طويلة مر خلالها على أكثر من جهاز حكومي، وذلك لضمان أن يحقق الكود الأهداف المرجوة منه في ضبط مخرجات التنمية العمرانية.

وبالرغم من موسوعية الكود وإتيانه على كل شاردة وواردة في عملية البناء، وهو أمر يشكر عليه كل مَن ساهم فيه، إلا أن الإغراق في التفاصيل قد يذهب بمقاصد الكود إلى نتائج جانبية على غير ما خطط له. يجب أن يتسم الكود بدرجة عالية من المرونة تتيح للمالك أن يتصرف بحرية مكفولة له قانونا وشرعا في ملكه، وتسمح للمعماري أن يبدع في تصميمه، وتتيح مجالا رحبا لكل الأطراف لحل ما يستجد من أمور بدون الحاجة لتدخل حكومي على أي مستوى كان. يجب أن يكون الهدف من الكود تسهيل مهمة البناء وتمكين الناس من تحقيق مبتغاهم في ممتلكاتهم. كود البناء يجب أن يكون عونا للتنمية لا عليها. وهو بحاجة إلى قراءة متأنية، وإلى تطبيق مرن، بما يكفل تحقيق رغبات الناس دون الإضرار بحقوق الآخرين.

والكود يجب أن يتعامل مع أمور ملحة نابعة من عمق المجتمع وحاجات أفراده، ولذلك تختلف أو هكذا يجب أن تكون الكودات. فما يصلح لبيئة باردة لا يصلح لأخرى حارة، وما يناسب بيئة غابية مطيرة لا يتناسب مع بيئة صحراوية جافة، وصناعة بناء تقوم على الخشب تختلف معالجاتها ومتطلباتها عن أخرى تستخدم الطوب أو الحجارة أو الخرسانة، وما يصلح لمجتمع حكومي يختلف عما يصلح لمجتمع قطاع خاص وهكذا. فكما أن للعمارة هوية وجب أن يكون للكود هويته أيضا.

ولكن في ظل تداخل الصلاحيات وكثرة المنتسبين إلى عملية البناء، فإن الخوف كل الخوف أن يتحول الكود إلى منظومة مكبلة من القوانين ينتج عنها أنماط بناء مكررة، وبيئة عمرانية منمطة، وهو ما صدر الكود أصلا لمعالجته. وهنا يستذكر كود حمورابي، أو يصبح الكود بازا في شعر المتنبي:

ومَن يجعل الضرغام بازا لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا

hanih@iau.edu.sa