لمي الغلاييني

يميل معظمنا للبحث عن الإثارة طول الوقت، واقتناء الكثير من الأشياء وإطالة أمد أوقات الراحة، حتى إن هناك أشخاصا يحاولون إيجاد طرق للراحة خلال ساعات العمل، وتجدهم يشتكون باستمرار من عملهم وعدم توافر وقت كافٍ للاسترخاء، لاعتقادهم بأن السعادة تعني إشباع رغبات جميع الحواس، والسعي المستمر المحموم وراء المتع، لكنهم إذا سمحوا لأنفسهم بإطالة فترات الراحة سنجد أن شعورهم بالتعاسة يصبح أكثر عمقا، والسبب أن مشكلتهم لا تتعلق بعدم وجود وقت كافٍ للراحة، بل بإشكالية مفهوم الراحة نفسها، فلا يمكن الاستمتاع بالراحة ما لم تعقب العمل، والشخص الذي يستغرقه العمل استغراقا حقيقيا لا يشغل باله بالتساؤل إذا كان سعيدا أم لا، فكل جزء من العمل مهما بدا عاديا أو تافها يمكن أن يفسح المجال للتفكير والشعور بالرضا شرط أن يؤدى بإخلاص وانفتاح، فالنفس تجد ذاتها بالسعي في الحياة والاندماج في تفاصيل المهام اليومية، بدءا من ترتيب السرير وتنظيف المنزل وإعداد الإفطار وغسل الأطباق، حيث يمكن لعملية غسل الأطباق أن تشكل تحولا فعالا في النفسية، فخلال تركيزك في عملية الغسيل بشكل واعٍ للعمل الذي تقوم به، فأنت تصفي الذهن من أية أفكار أخرى، ويجري إبعاد المشوشات بلطف حتى لا يبقى في الذهن سوى المهمة، التي أنت بصددها، وعندما يتمكن المرء من تطوير وعيه بمستوى هذا الصفاء، فيمكن حينها لأبسط الأعمال أن تتحول لتجربة روحية جميلة، وحتى لدى المشاركة في لعبة ما، فعلينا أن نلعبها وفق قواعد تلك اللعبة، فالحركات التي نقوم بها أثناء اللعب تعكس مدى معرفتنا بقوانينها والتزامنا بها، وقد لا يرتبط إخفاقنا في الحياة أحيانا بالتحديات الخارجية، بل بالإعاقات الداخلية الحقيقية المتولدة من انعدام الالتزام الصادق بمهمة محددة، فالطقوس المستنيرة لا تجري فقط ضمن العبادات، بل إنها مبثوثة في ثنايا الدأب الذي نؤدي به مهماتنا العادية، وإن مزج الانسجام الروحي بممارسات الحياة اليومية هو السمة البارزة للأشخاص الناضجين، التي يسعون من خلالها للوصول إلى عزف معزوفة التدفق الشعوري في داخلهم، وهي ما يسميها علماء النفس «flow state»، فمعنى أن تكون في مرحلة التدفق هو أن تدخل في حالة نفسية من أعلى درجات وعيك تتمثل في التركيز المطلق وذروة الأداء، وهي المرحلة التي يكون فيها الشخص، الذي يؤدي نشاطًا ما في قمّة تركيزه واندماجه في عمله، وحسب الأبحاث في علم النفس الإيجابي، فإنه إذا تمكنا من زيادة الوقت، الذي نقضيه في حالة التدفق بنسبة 15-20 %، فإن إجمالي إنتاجية العمل ستتضاعف. ولهذا فإذا أردت الدخول في حالة التدفق الذهني فلا بد أن تستمتع بداية بالعمل الذي تؤديه، وتجهز بيئة مناسبة بدون مشتتات، وأن تكون لديك صورة ذهنية للهدف، الذي تَمضي قُدمًا لتحقيقه، وأن تعيش مرحلة الشعور بالصفاء وفقدان الوعي الذاتي، وعدم الشعور بالقلق حيال ما تقدمه أو الاكتراث بتقييم الآخرين.

@LamaAlghalayini