سالم اليامي

في العيد يحاول الناس الاقتراب من الفرح بقدر الإمكان، ونسيان بعض الهموم، أو الوقائع الصعبة في هذه الحياة، وما أكثرها. في ثاني أيام العيد تلقيت عبر تقنية الواتس آب رسالة من رقم غير مدون عندي ضمن جهات الاتصال، وهذا ما جعلني أؤخر قراءة الرسالة إلى اليوم الذي يليه، وبمجرد اطلاعي على الرسالة عرفت أنها من البلاد التونسية، وأن مَن أرسلها مشكوراً مواطن تونسي اسمه الصادق. قصة الصادق عجيبة، فهو الرجل الأول الذي قابلته عندما التحقت بعملي حينها في أواخر العام 2007م في العاصمة تونس، كانت المرة الأولى التي أزور فيها تونس، ولأنني جئت قبل تاريخ مباشرتي العمل بأسبوع كامل قررت أن أكتشف العاصمة بنفسي، ولم أخبر أحدا من زملاء العمل بقدومي؛ للتخفيف عليهم، ولمنحي مزيدا من حرية الحركة والاكتشاف بنفسي، لهذه البلاد، والمدينة التي سأقضي فيها سنوات من عمري. بمجرد أن أنهيت إجراءات القدوم حصلت على شريحة هاتف تونسية ولم يمض وقت طويل إلا وأنا أمام مواقف سيارات الأجرة، وكان الدور على سي الصادق، ركبت معه بدون كلام كثير وأخبرته بالعنوان الذي أقصده، وهو فندق في وسط العاصمة، وكان الوقت بعد الظهر بقليل وشمس شهر أغسطس حارقة حتى في تونس الخضراء، أعطيت الرجل حسابه ولفتني هدوءه وملامحه الجادة، ومحاولته الحديث معي بألفاظ عربية بسيطة. أخبرني بالمبلغ المطلوب، وسلمته إياه بدون زيادة أخذه شاكراً، ومتمنياً لي إقامة سعيدة، فسألته وهو يهم بالركوب بعد أن أخرج حقيبتي من السيارة عن إمكانية أن يكون دليلا سياحيا أو شخصا يساعدني في التعرف على المدينة، كتب رقم هاتفه واسمه وقال باللهجة التونسية لي:

-كي تستحقني، أعمل لي ابيل.

وتفسير جملته تلك: عندما تحتاجني، أتصل بي.

أنهيت إجراءات دخولي للفندق، وسألت موظف الاستقبال عن المبلغ الذي دفعته لسي الصادق للقدوم من المطار، فقال لي: بلهجة تونسية مخلوطة بالفرنسية:

-قَدْ، قْدْ. أقزاكتموا.

ويقصد، تماماً، بالضبط.

المفيد أنه من صباح اليوم الثاني أصبح سي الصادق رفيقي في اكتشاف المدينة، والتجول فيها، وتعمقت العلاقة بأن أصبحنا أصدقاء، ودخلت منزله، وأصبحت أنادي والدته المسنة بأمي فضيلة، سي الصادق قليل الكلام ولكنه يعبر عن كل شيء بطريقته الخاصة، تعلم من الحياة، ويخاف الاختلاط الزائد بالناس، ويعتقد أن الخير قادم دائماً رغم ملامحه الجادة وابتساماته النادرة. وللأسف انقطعت أخباره بعد ثورة 14 يناير 2011م وغادرت تونس في أواخر ذلك العام. وجاء ت هذه الرسالة لتذكرني برجل نادر مثل سي الصادق، اتصلت به وكان كما تركته قبل سنوات منصت جيد، هادئ لا يسرف في الكلام، ونادرا ما يمزج حديثه بالمزاح، فهو جاد غالبا. سألته عن أمي فضيلة، فقال بألم:

- يا حسرة توفيت منذ عامين.

وسألته عن الصغار أي الأبناء وهما ولد وبنت.

فقال:

- ساييه سي سالم وَلوَ كبار، كيما تعرف، قرايين لا باس عليهم، مْي بطالين مافماش خدمة في البلاد.

وتفسير ما قاله باللهجة التونسية، انتهى يا سيد سالم، أصبحوا كباراً، وهم جادون في تحصيلهم الدراسي، لكنهم عاطلون عن العمل، ليست هناك وظائف في البلاد.

مكالمتي لسي الصادق عكست طبيعة إنسان ومعاناة مجتمع كامل، وبقدر ما فرحت بتجديد تواصله، بقدر ما حزنت مما نقله لي حتى ونحن في عيد.

@salemalyami