سعود القصيبي

أثارني قول لأحدهم بأن مدينة الجرهاء التاريخية الساحلية هي مدينة ثاج البرية جاعلًا من مواقع المدن القديمة كما بتلك الأكلة الشهيرة «كشري». ومسألة هذا الرأي غير مهمة وثانوية؛ بسبب عدم التخصص من القائل، إلا أن كثرة تناقلوا مثلها من رواية أصبحت وكأنها الحقيقة التاريخية بين بعض الأوساط. ومن خطورة ما ذُكر أنه فتح الباب أو الدكان لكل مَن أراد أن يقول هي هنا أو هناك حتى بدأت أن أصدِّق أنها ربما تكون هي ذاتها أتلانتس تلك المدينة اليونانية الغارقة ذات الأساطير الشهيرة وربما. وحتى أكون منصفًا، فالرأي لم يأتِ من فراغ وهو بأسباب الجدل التاريخي حول موقع الجرهاء، إلا أنه أضعفه رواية.

ما يهمُّ الجرهاء بالنسبة للتاريخ القديم أنها ميناء رئيسي في الخليج، ومحطة هامة ثرية على طرق التجارة القديمة. جاء ذِكر لها زمن الإسكندر المقدوني، بعد استيلائه على فارس، وأجزاء من الهند، حيث أرسل بعثة استطلاعية بها مؤرخون وجغرافيون دوَّنوا مشاهدتهم عنها وتفاصيل موقعها على أمل غزوها واحتلالها اللاحق، إلا أن وفاة الإسكندر بعدها حالت دون إكمال المهمة. وبأسباب تلك الحملة الاستطلاعية جاء انتشار ذِكرها، وعن طريق الإغريق الذين خصَّصوا جزءًا أساسيًّا من كتابات مؤرخيهم عن جزيرة العرب بوصفها ووصف مدى ثرائها. أما المؤرخون وعلماء الآثار المعاصرون، فقد حيَّرتهم بسبب كونها مدينة مندثرة. إلا أن البعثة الإغريقية وصفت موقعها من حيث المسافة بالدقة؛ مما يضعها تمامًا في العقير، كما أشار عدد من الباحثين.

وأستوقف هنا بتلخيص بحث لعبدالجبار السامرائي، جاء بمجلة الواحة سنة 2007م، ولعل البُعد التاريخي يبيِّن لنا أهميتها، خاصة بوجود لبس بين مدينة ثاج الصحراوية، والتي أسست زمن الرومان والجرهاء الأقدم منها، وعلى ساحل الخليج. ووفقًا للسامرائي، فقد أكدت المصادر التاريخية وجود مملكة عربية قامت على ساحل الخليج العربي، في الوقت الذي كانت تقوم فيه الدولة الأكدية في العراق، وهي الفترة الزمنية بين (2750 - 2542 ق. م) وقد عُرفت هذه المملكة العربية في المدوّنات الأكدية والبابلية والآشورية باسم «مملكة البحر»، ويُقصد بالبحر هنا: الخليج العربي، الذي كان يُعرف في ذلك الوقت باسم «مار مراتو» أو «البحر المر» أو «البحر الأدنى».

لهذه المملكة اسم آخر هو «مملكة الجرها» أو «مملكة جرعاء» التي ذكرتها التواريخ العربية باسم «جرعاء بني مالك»، وهو اسم العاصمة أيضًا «جرها - جرعاء»، وكانت هذه العاصمة تقع على مقربة من ميناء «العقير - العقير» في الأحساء، ويظن بعض الباحثين، ومن بينهم المعلمة البريطانية أن كلمة «عقير أو عجير» هي تصحيف لكلمة «جرعاء» ذاتها، وأن الخرائب التي تقع على مقربة من العقير، والتي تُعرف اليوم باسم «أبو زهمول»، هي بقايا مدينة الجرهاء. كما أن الجرعاء في لغة العرب: الأرض ذات الحُزونة والخشونة تشاكل الرمل وقيل: هي الدِّعص لا تُنبِت شيئًا. وفي خريطة بطليموس للعربية الصحراوية، نلحظ نسبة هذه المنطقة إلى الجرهائيين، ثم يُذكر أن معنى كلمة «جرهاء» هو المكان الذي لا ينمو فيه شيء.

وقد اقترن اسم «الجرهاء» بقبيلة تميم، فقد ذكر الهمداني الجرعاء فقال: «ثم ترجع إلى البحرين فالأحساء منازل ودور لبني تميم، ثم لسعد من بني تميم، وكان سوقها على كثيب تتابع عليه العرب. ويتحدث المؤرخ اليوناني سترابو عن عظمة مدينة الجرهاء، ومدى اتساعها فيقول: إن محيط المدينة كان يبلغ طوله خمسة أميال، ولها أبراج مبنية من الصخور الملحية.

وبسبب موقع مملكة جرعاء الجغرافي المهم، وثرائها الفاحش، وسيطرتها على الملاحة في منطقة الخليج العربي؛ توجَّهت إليها في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، الجيوش الآشورية، واستولت عليها وضمَّتها إلى الإمبراطورية. غير أن أهل الجرهاء ثاروا على الآشوريين في عهد ملكهم سنحاريب (750 - 681 ق. م)، واستطاع قمعهم، ويأتي بهم أسرى إلى بابل. وذكر المؤرخ بلني الكبير أن أنطيوخوس الثالث غزا الساحل الغربي للخليج العربي، ورضي بالهدايا الثمينة وحال عنها.

والحديث يطول إلا أن التاريخ بجميع مصادره يجمع على أنها مدينة ساحلية موغلة في القدم، وليست تلك المدينة الصحراوية المعروفة بثاج، والتي بُنيت بعدها بسنوات طوال، ولم تكن جزءًا من حضارة الجرهائيين إلا أنها تأثرت بهم.

@SaudAlgosaibi