د. نايف بن عيسى الشدي

تواتر الناس على أن «الكثرة تغلب الشجاعة»، إذ الغلبة للأكثر عدة وعتادًا، و«الزود ولا النقص»، إذ النقص منقصة؛ فهو للمال فقر، وللربيع قفر، وللقُدرة قهر، وللوصل هجر، وليس ذلك بجديد على البشرية، فقد عابوا على طالوت أنه: «لم يؤت سعة من المال»، ومع ذلك فقد مُكن عليهم؛ لنعلم أن النقص لا يعني بالضرورة انعدام القدرة، والقلة في جانب لا تلغي جماليات أخرى قد تكون أكثر روعة وجلالا؛ بل قد تكون هي الجمال، فالإيجاز في الحديث -مثلا- يعد غاية، بل لا يستطيعه إلا من ملك البيان والبلاغة، ولك أن تحاول كتابة خاطرة، ستجد أن تتابع الصفحات أيسر من اختزال الأفكار في جملة موجزة ووافية.

ومما لا يعد سرًا أن الحاجة شريان الشغف، والمنع وقود الرغبة، وكلما قل الشيء زادت قيمته، وما الألماس ونوادر الأحجار إلا دليل على أن القليل عزيز:

قليل منك يكفيني ولكن *** قليلك لا يقال له قليل.

ولن تخالفني القول إن الإكثار قد يضر، فلو أكثرت من لذيذ الأكل هلكت، ومن جميل السهر سهدت، وحتى النوم إن أكثرت منه تنكدت، بل إن الإقلال -أحيانا- يسر، ولذا قيل: «زر غبًا تزدد حبًا»، وبين ذا وذاك ثمة مَن يقف في حيرة من أمره، ويسائل نفسه:

- كيف أستزيد ولا يكون ذلك ضُرًّا، وأُقل دون أن يُقلل مني قدرا؟

وقبل الإجابة فلننطلق من بعض المسلمات، ولعل منها أن الفجر لا يولد إلا بعد احتلاك الظلام، وأن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن الطرق لقمم الجبال ليست محفوفة بالورود، بقدر ما هي وعرة وخطرة، وأن للنجاح والظفر والإنجاز لذة لا تُدرك إلا بالمشقة، كما قال المتنبي:

لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال

كما أن كلا منا لديه مقومات مذهلة، ومعلومات هائلة، ونشترك جميعا في امتلاك 24 ساعة في اليوم، غير أن ذلك لا يعني أننا على قدر واحد من القدرات والمهارات، وهو ما يقودنا للقول إنك تختلف تماما عني، ومجالك لا يعني بالضرورة أن يكون مجالي، والمحفزات التي بين يديك وحتى نقاط ضعفك قد لا يكون منها شيء عندي.

بل ويعني أنك مهما اتفقت مع غيرك تبقى مختلفًا، وكلما كنت مؤمنًا بذاتك على حقيقتها، وعارفًا بالمعطيات المحيطة بك على طبيعتها، والفرص التي تحفك، والمخاوف التي تعترضك، صح ميزان القلة والكثرة لديك، وكانت بوصلة حياتك أكثر دقة وأوضح وجهة.

وعند اليابانيين فلسفة للحياة تسمى: «Wabi Sabi - الوابي سابي»، وهي باختصار: تدعو للتناغم مع طبيعة الحياة على تواضعها، والتنبه إلى خطورة الزمن الذي لا ينتظر، ويستمر بلا توقف في التقدم، ويمكن القول إنها:

رؤية الجمال في النقص أو عدم الاكتمال.

وعندنا فلسفة تقول: كن جميلا، ترى الوجود جميلا...

جميلا بك، باكتمالك ونقصك، وبأثرك وإصرارك، وبصبرك ويقينك بعظيم دورك، ومهما غالبتك الحياة -وتلك طبيعتها- فإنك لا تبتئس لأنّ «هذا الوقت سيمضي»، فما يضيمك زائل، وما يبهجك عنك مائل.

وكل ما عليك هو أن تتناغم مع الروائع التي بين يديك، ولا تستصغر منجزاتك مهما كانت قليلة في عينيك، واعمل بجد واقتصر، وحذار أن تتأمل من غيرك الكثير فتنكسر.

@nayefcom