محمد الحرز
إزاء وحشية الاعتداء الإسرائيلي على أطفال غزة ونسائها, ومناظر الدم والأشلاء وسياسة القتل البطيء واليومي من خلال الحصار لشعب بكامله. إزاء الدمار والخراب للمنازل والبيوت والمدارس والملاجئ, وتفقير البنية التحتية لكل مقومات الحياة. إزاء هذا كله لا أريد هنا فقط أن ألوم الأنظمة العربية أو حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى أو السلطة الفلسطينية أو الدول العربية التي تندرج تحت محور الاعتدال, أو ما يقابلها من الدول العربية التي تندرج تحت محور الممانعة. عندي الكل مدان ومتهم ,والكل يتحمل المسؤولية بالقدر الذي نوجه فيه أصابع الاتهام إلى أمريكا والدول الغربية الكبرى الذي لا يختلف اثنان على انحيازهما الواضح والسافر لإسرائيل ضد العرب وقضيتهم الكبرى فلسطين متجاوزين كل الأنظمة الدولية وقوانينها التي تنص جميعها على أن قتل المدنيين الأبرياء كما تمارسها الدولة الصهيونية هي أعمال إرهابية بامتياز.لكن هل يجدي هذا الكلام والتذكير به كلما حلت علينا مصيبة أو كارثة ترفع لواءها إسرائيل؟ أليس الفكر السياسي الغربي هو من ساهم بشكل كبير في وضع هذه القوانين والأنظمة الدولية حماية للإنسان وحفاظا على حقوقه من التسلط والظلم وإنشادا للعدالة الفردية والاجتماعية؟ هل يمكن أن يذهب هذا الإرث الفكري السياسي العظيم الذي ورثته أوروبا أدراج الرياح حينما يتعلق الأمر بإسرائيل؟ ألا يحق لنا أن نتساءل عن هذه المفارقة التي تجعل علاقتنا بالغرب مضطربة غير مستقرة على الأقل على مستوى النخب المثقفة وصناع الرأي والوعي. ربما لم نفهم التاريخ الأوروبي بما يكفي لا سياسيا ولا فكريا ولا دينيا واجتماعيا, وما يمثله اليهود من موقع فيه من العمق خصوصا في القرنين الأخيرين: التاسع عشر والعشرين. إن فهم هذه المفارقة وتحليلها ووضع الرؤى الاستراتيجية للتعامل معها انطلاقا من الفكر والثقافة والسياسة تحتاج منا إلى الكثير من المنطق والعقلانية والفرز والتصنيف والبحث والأهم الإرادة المعرفية وأسباب القوة, ويا للأسف جميع هذه الأمور لم تزل في طور الأمنيات والأحلام ما دامت القضية الفلسطينية منذ نكبة 48 تكبر في الذاكرة العربية مثل كرة الثلج دون أن تتوقف. وما دام الدم الفلسطيني يراق على أرضه وليس من ذنب سوى أنه متمسك بحقه في العيش على أرضه فقط, فهل يمكن أن نكون عقلانيين ومنطقيين ومطالبين بقضايا من قبيل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وغيرها من تلك القضايا التي نلوح بها ليل نهار, في حين نرى دماء وأشلاء الضحايا من الأطفال والنساء متناثرة على مرأى ومسمع من العالم؟ إزاء هذا الوضع لا صوت يعلو فوق صوت العاطفة وما عداه هو صراخ في واد سحيق لا يسمع.كل تغير في الوضع العربي مشروط بحل القضية الفلسطينية أولا وأخيرا. هذه هي المعادلة التي ينبغي حلها في سياق التطور الحضاري المنشود. وأي تحايل عليها أو الالتفاف حولها لن يؤدي سوى إلى المزيد من التردي والضعف والهزيمة.آلة القتل الإسرائيلية قضت على كل بارقة أمل يمكن أن تقودنا إلى تفكير عقلاني منفتح على العالم وعلى قضاياه, فهل نحن كعرب نخدع أنفسنا حينما نتحدث عن مشروع السلام في إطار دولتين كما تبجح بذلك بوش؟ وهل نصدق أن أولمرت وسفي لفني وباراك وغيرهم من عصابة إسرائيل, الذين يحفل تاريخهم بالإرهاب يحملون في عقولهم مشروع سلام وليس مشاريع عسكرية ؟وهل بعد غزة ثمة من يرفع صوته مطالبا بالسلام مع العدو الصهيوني؟ صحيح أننا لم نستوعب دروس التاريخ بسبب ذاكرتنا التاريخية المهترئة والمملوءة بالثقوب , ولكن مشاهد الأطفال وهي تقصف وتقتل لا يمكنها إلا أن تحتل مساحة في ذاكرة الناس ومخيلتهم, على الأقل في المستقبل القريب.وبالتالي هل من المعقول أن يذهب المرء إلى السلام ودماء الأطفال لا زالت تلمع في ذاكرة الناس. ربما هذا الكلام لا يدخل ضمن التحليل السياسي , ربما هو أقرب إلى التنفيس الشعوري العاطفي أكثر من كونه وعيا تاريخيا وسياسيا بالقضية الفلسطينية.قد يكون ذلك صحيحا , ولكن ما لا يمكن الشك فيه هو أن مأساة الشعب الفلسطيني هو في كونه وقع بين رهانين خاسرين الأول هو رهان السلطة الفلسطينية في خيارها في الذهاب إلى السلام حسب شروط اتفاقيات أوسلو. أما الثاني فهو خيار حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى في خيارها للمقاومة التي تتغذى على الخطابات الجهادية ومفرداتها الثقافية. بالتأكيد نحن مع المقاومة وبجميع أشكالها ولكن ضمن دولة قوية تشرعن لهذه المقاومة وتحميها, وهذا هو المأزق الحقيقي الذي ليس يعيشه الفلسطينيون فقط , ولكن العرب بأجمعهم. فهم لم يؤسسوا دولة قوية لها موقعها في الخارطة السياسية الدولية, ينجزون من خلالها مشاريعهم التنموية والتطورية. وحينما يتساءل أحدهم أليس هدف السلام وغايته التي تسعى له السلطة الفلسطينية والدول العربية الداعمة له هو الحصول على الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية قائمة؟منطقيا وعقلانيا يبدو ذلك صحيحا لكن ينبغي أن لا ننسى التراكم التاريخي اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا ودينيا الذي أوصلنا إلى هذه الحالة من الضعف والهوان والتشرذم , وليست االشعوب العربية سوى نتاج هذا التراكم الموروث. لذلك يبدو من الصعوبة بمكان في وضع كهذا أن يبادر العرب بطرح قضايا تهم السلام في منطقتهم فضلا عن قضايا السلام العالمي. البون شاسع وكبير بين الاثنين.فهل الحل هو أن نقوي أنفسنا أولا ثم نبادر للسلام أم نذهب للسلام كما تفرضه الدول العظمى علينا أم الخيارين كليهما حسب الظروف الملائمة؟ ربما الخيار الأخير هو إحدى سمات الفوضى التي تشكل فضاءنا العربي بامتياز. Mohmed_z@hotmail.com