الأستاذ سعود القصيبي كاتب ناضج، مهتم بالتراث كما يبدو في أغلب كتاباته، وهو كاسم يحيي في ذاكرتنا حضور هذه العائلة الكريمة التي اشتهرت كبيت تجارة قبل أن يبرز فيها الشاعر العملاق غازي القصيبي تغمده الله بواسع رحمته، الذي شرّق وغرّب بهذا الاسم العائلي المحترم وأخرجه من دائرة (المال) إلى رحاب (الجمال) الأوسع.
العزيز سعود كتب في العدد (17931) من صحيفتنا الغرّاء تحت عنوان (المواشي سبب التصحّر) مقالاً كان من الواضح أنه يريد بحسن نية أن ينتصر لصحرائنا الحبيبة التي أكلتها عوامل التعرية وأصبحت جرداء شاحبة، لا شجر فيها ولا حجر!
لكنه بدلاً من أن يرصد العوامل الحقيقية التي كانت سبباً في هذا التصحّر الماحق -وهو الباحث الرصين- اتجه إلى الجاهز والهامشي من العوامل التي قد يكون لها بعض التأثير الجانبي، ولكنها ليست أبرز الأسباب الجوهرية المؤثرة في انكشاف الغطاء النباتي وسحق القشرة العذراء التي كانت تحتضن جذور وبذور النباتات والأشجار البرّية لتصبح مثاراً للأتربة والغبار وملعباً للرياح والزوابع!
وباعتباري من هواة الإبل ومقتنيها ومحبّيها فلن أدافع عنها من باب العاطفة، ولن أذهب مع فكر المؤامرة الذي يظن أن هناك من يدير الدوائر بسفن الصحراء وأهلها من بعض النخب والأوساط الاجتماعية، فهذا تفكير ساذج ولا يستحق الالتفات إليه، بدليل أن أبرز من يهتم بالإبل ويقتنيها هم قادة هذا البلد ووجهاؤه ورجال الأعمال فيه، وقبائله العزيزة المنتشرة في أنحاء المملكة!
والإبل قطاع اقتصادي نشط لا حاجة لتأكيد أهميته، وكم هو فخر للمجتمع أن يربّي الإبل والأغنام ولا يربّي القطط والكلاب!
أقول لن أدافع عن الإبل فهي دون شك تبحث عن المرعى وتجوب الصحاري والقفار بحثاً عن مواطن الربيع، وهذا ديدنها منذ أن خلقها الله وإلى أن تقوم الساعة، وهي قد تقضي على النباتات العشبية الموسمية التي إن لم (ترعها) فسوف ترعاها الرياح الهوجاء التي باتت تقتلع أعمدة الكهرباء الثابتة وتقلب الشاحنات الثقيلة وتهدم جدران المنازل وخزانات المياه في القرى والهجر المكشوفة، فما بالك بالأعشاب الربيعية الصغيرة!
ولكن الإبل ليست مسؤولة عن هوس التعدّي على البيئة من محترفي الاحتطاب الجائر الذين كانوا في غفلة من الوعي وفي غياب الأمن والنظام البيئي، فقضوا على غابات الطلح والسلم والسدر والغضا والأرطا وغيرها من الأشجار المعمّرة مثل شجرة الرمث التي كانت تملأ كل مكان، فلم يعد لها أي وجود، قبل أن تتحرك الجهات المختصة لتضع حداً لهذا العبث البيئي، وتلجأ متأخرة إلى حماية ما تبقى من تلك الأشجار بإنشاء محميات واسعة، وهي خطوة مباركة، رغم أنها حاصرت (أهل الحلال) ووضعتهم بشكل مفاجئ أمام خيارات صعبة، قد لا تكون في صالح الثروة الحيوانية التي يعتمد عليها الوطن بشكل كبير، في ظل ارتفاع الأعلاف والبدائل الأخرى غير المتاحة للجميع، وخصوصاً أمام الهواة وصغار المربين!
وليس حلاً أن يطرح الأستاذ القصيبي فكرة التوسع في استيراد المواشي من الخارج على حساب تجفيف البلد من ثروته الحيوانية والقضاء على مصادره الذاتية التي تستحق الدعم والرعاية، فكيف والقصيبي العزيز يكملها بثالثة الأثافي ويقترح رفع كلفة تأشيرة الرعاة لمزيد من الأعباء والتضييق على إخوانه في هذا القطاع، بدلاً من أن يطالب مصانع الأعلاف بتخفيض أسعارها والتوقف عن استغلالها البشع لظروف الناس!
ويبقى الرهان على الاستيراد الخارجي في كل شيء رهاناً استهلاكياً خاسراً على كل الأصعدة!
(التصحّر) مفردة (غبارية) شاحبة يكتبها المرء وهو يلفّ طرف غترته على وجهه، والتصحّر لا يقتصر على البيئة وحدها، فكل شيء قابل للتصحّر بما في ذلك الأفكار والرؤى!
على المستوى الشخصي أنا من عشاق الصحراء ومرتاديها، وهي منفاي الاختياري حالياً، ولي كتيّب تعبيري صغير يرصد حجم هذا العشق قد يصدر لاحقاً ضمن مجموعتي الشعرية الكاملة، ولي قصيدة شعبية بعنوان (مرثية الصحراء) تبكي حال بيئتنا وتحولاتها الموجعة، ويؤلمني ما حلّ بهذه الصحراء الجرداء التي يبحث فيها صديقنا سعود القصيبي عن الجرابيع والطيور وحتى (الأفاعي) فلا يجدها! لكنه لو بحث عنّا فيها فسوف يجدنا هناك نتسربل أحزانها ونغتسل بغبارها النفّاذ، ونردد هذا البيت:
عجاجنا الثاير للأجساد تحصين **** وغبارنا الهادي يعدل المزاجي
وحتى نكون على قدر من الموضوعية والقراءة الصحيحة لأسباب التصحّر، فهي تعود لما يلي:
1- التغيرات المناخية وتوالي الدهور، وتراجع كميات مياه الأمطار الموسمية، مما جعل مساحة الجفاف تزداد بشكل قضى على مظاهر الحياة البرّية.
2- الاحتطاب الجائر الذي جرّد الصحراء من غاباتها الشجرية.
3- التعدّي الصارخ على البيئة بتجريف ونهل واستنزاف الرمال بطرق مشروعة وغير مشروعة، وتفتيت صخور الجبال، ونهب بطاح الأودية ومشاريع الكسّارات، فضلاً عن حركة المعدات والآليات المختلفة التي تعمل في هذا الإطار، وتكمل الناقص في التعدي السافر على الطبيعة وتخريب مكوناتها حتى غدت مرتعاً أزلياً للغبار!
4- ولا ننسى الأثر البالغ الذي تركته حرب (عاصفة الصحراء) أثناء تحرير دولة الكويت الشقيقة وما تطلّبه التموضع العسكري من حفر خنادق وعمل دشم وعقوم وسواتر ترابية أدت إلى تجريف التربة وقولبتها وربما تغيير معالمها على امتداد صحراء السفانية والدبدبة وحتى حفر الباطن.
5- الغزو الرهيب الذي يمارسه هواة الرحلات البرّية والمتنزهون الجدد الذين يتحركون على شكل مجاميع وقروبات ويتسابقون على الفياض والريضان، بحثاً عن الأولوية في الوصول إليها، والتصوير والهياط، وأيّهم يوقد ناراً أضخم من نار الآخر في قلب الروضة المكتظة بالخزامى والنوار!
وبعضهم لا يتورّع عن (التفحيط) بسيارته وإتلاف الزهور الجميلة التي كان قد استمتع بها في تصرّف انتقامي مريض فضلاً عن مخلفاتهم وبقاياهم المخجلة، إلا من رحم ربي!
6- قد يكون هناك رعي جائر وخصوصاً من كبار تجار ومستثمري الأغنام الذين يمتلكون قطعاناً هائلة منها، تتحرك بالآلاف على نطاق واسع من الأرض، وتعرفها من خلال الغبار الذي يملأ الأجواء التي تتحرك فيها!
أما صغار مربي الأغنام ومعهم مربي الإبل فهم أشد المتضررين من هؤلاء المستثمرين الذين يجب أن يتم حصرهم في إطار مشاريع زراعية محددة!
غير أن ثمّة ظاهرة خطيرة جداً تهدّد البيئة بالتلوث على المدى البعيد، وهي أشد فتكاً من الرعي، ويجب أن يتنبّه لها (أهل الحلال) بشكل عام وهي المخلفات البلاستيكية الطائرة التي يتم قذفها للريح فور إفراغها من المكعبات (العلفية) فتذهب يمنة ويسرة وتشكّل كارثة بيئية حقيقية، فضلاً عن مخلفات (الشبوك) والمعالف التالفة والأسلاك المعدنية!
والأدهى والأمرّ تلك الحيوانات النافقة المتروكة في العراء، وهو ما يجب أن تلتفت له وزارة البيئة، وذلك بتشكيل فرق ميدانية لمسح البراري والقفار، وتنظيفها من هذه المخلفات، وتعقيمها، وتوعية (أهل الحلال) وإرشادهم للطرق الصحيحة والآمنة والممكنة في كيفية التخلص من المواشي النافقة، وتوفير المواد التي تساعدهم على ذلك، في ظل عدم قدرتهم على طمرها أو حرقها بالشكل المطلوب، وسن تشريعات وفرض عقوبات على كل من يتعمّد الإضرار بالبيئة.
والله من وراء القصد.
العزيز سعود كتب في العدد (17931) من صحيفتنا الغرّاء تحت عنوان (المواشي سبب التصحّر) مقالاً كان من الواضح أنه يريد بحسن نية أن ينتصر لصحرائنا الحبيبة التي أكلتها عوامل التعرية وأصبحت جرداء شاحبة، لا شجر فيها ولا حجر!
لكنه بدلاً من أن يرصد العوامل الحقيقية التي كانت سبباً في هذا التصحّر الماحق -وهو الباحث الرصين- اتجه إلى الجاهز والهامشي من العوامل التي قد يكون لها بعض التأثير الجانبي، ولكنها ليست أبرز الأسباب الجوهرية المؤثرة في انكشاف الغطاء النباتي وسحق القشرة العذراء التي كانت تحتضن جذور وبذور النباتات والأشجار البرّية لتصبح مثاراً للأتربة والغبار وملعباً للرياح والزوابع!
وباعتباري من هواة الإبل ومقتنيها ومحبّيها فلن أدافع عنها من باب العاطفة، ولن أذهب مع فكر المؤامرة الذي يظن أن هناك من يدير الدوائر بسفن الصحراء وأهلها من بعض النخب والأوساط الاجتماعية، فهذا تفكير ساذج ولا يستحق الالتفات إليه، بدليل أن أبرز من يهتم بالإبل ويقتنيها هم قادة هذا البلد ووجهاؤه ورجال الأعمال فيه، وقبائله العزيزة المنتشرة في أنحاء المملكة!
والإبل قطاع اقتصادي نشط لا حاجة لتأكيد أهميته، وكم هو فخر للمجتمع أن يربّي الإبل والأغنام ولا يربّي القطط والكلاب!
أقول لن أدافع عن الإبل فهي دون شك تبحث عن المرعى وتجوب الصحاري والقفار بحثاً عن مواطن الربيع، وهذا ديدنها منذ أن خلقها الله وإلى أن تقوم الساعة، وهي قد تقضي على النباتات العشبية الموسمية التي إن لم (ترعها) فسوف ترعاها الرياح الهوجاء التي باتت تقتلع أعمدة الكهرباء الثابتة وتقلب الشاحنات الثقيلة وتهدم جدران المنازل وخزانات المياه في القرى والهجر المكشوفة، فما بالك بالأعشاب الربيعية الصغيرة!
ولكن الإبل ليست مسؤولة عن هوس التعدّي على البيئة من محترفي الاحتطاب الجائر الذين كانوا في غفلة من الوعي وفي غياب الأمن والنظام البيئي، فقضوا على غابات الطلح والسلم والسدر والغضا والأرطا وغيرها من الأشجار المعمّرة مثل شجرة الرمث التي كانت تملأ كل مكان، فلم يعد لها أي وجود، قبل أن تتحرك الجهات المختصة لتضع حداً لهذا العبث البيئي، وتلجأ متأخرة إلى حماية ما تبقى من تلك الأشجار بإنشاء محميات واسعة، وهي خطوة مباركة، رغم أنها حاصرت (أهل الحلال) ووضعتهم بشكل مفاجئ أمام خيارات صعبة، قد لا تكون في صالح الثروة الحيوانية التي يعتمد عليها الوطن بشكل كبير، في ظل ارتفاع الأعلاف والبدائل الأخرى غير المتاحة للجميع، وخصوصاً أمام الهواة وصغار المربين!
وليس حلاً أن يطرح الأستاذ القصيبي فكرة التوسع في استيراد المواشي من الخارج على حساب تجفيف البلد من ثروته الحيوانية والقضاء على مصادره الذاتية التي تستحق الدعم والرعاية، فكيف والقصيبي العزيز يكملها بثالثة الأثافي ويقترح رفع كلفة تأشيرة الرعاة لمزيد من الأعباء والتضييق على إخوانه في هذا القطاع، بدلاً من أن يطالب مصانع الأعلاف بتخفيض أسعارها والتوقف عن استغلالها البشع لظروف الناس!
ويبقى الرهان على الاستيراد الخارجي في كل شيء رهاناً استهلاكياً خاسراً على كل الأصعدة!
(التصحّر) مفردة (غبارية) شاحبة يكتبها المرء وهو يلفّ طرف غترته على وجهه، والتصحّر لا يقتصر على البيئة وحدها، فكل شيء قابل للتصحّر بما في ذلك الأفكار والرؤى!
على المستوى الشخصي أنا من عشاق الصحراء ومرتاديها، وهي منفاي الاختياري حالياً، ولي كتيّب تعبيري صغير يرصد حجم هذا العشق قد يصدر لاحقاً ضمن مجموعتي الشعرية الكاملة، ولي قصيدة شعبية بعنوان (مرثية الصحراء) تبكي حال بيئتنا وتحولاتها الموجعة، ويؤلمني ما حلّ بهذه الصحراء الجرداء التي يبحث فيها صديقنا سعود القصيبي عن الجرابيع والطيور وحتى (الأفاعي) فلا يجدها! لكنه لو بحث عنّا فيها فسوف يجدنا هناك نتسربل أحزانها ونغتسل بغبارها النفّاذ، ونردد هذا البيت:
عجاجنا الثاير للأجساد تحصين **** وغبارنا الهادي يعدل المزاجي
وحتى نكون على قدر من الموضوعية والقراءة الصحيحة لأسباب التصحّر، فهي تعود لما يلي:
1- التغيرات المناخية وتوالي الدهور، وتراجع كميات مياه الأمطار الموسمية، مما جعل مساحة الجفاف تزداد بشكل قضى على مظاهر الحياة البرّية.
2- الاحتطاب الجائر الذي جرّد الصحراء من غاباتها الشجرية.
3- التعدّي الصارخ على البيئة بتجريف ونهل واستنزاف الرمال بطرق مشروعة وغير مشروعة، وتفتيت صخور الجبال، ونهب بطاح الأودية ومشاريع الكسّارات، فضلاً عن حركة المعدات والآليات المختلفة التي تعمل في هذا الإطار، وتكمل الناقص في التعدي السافر على الطبيعة وتخريب مكوناتها حتى غدت مرتعاً أزلياً للغبار!
4- ولا ننسى الأثر البالغ الذي تركته حرب (عاصفة الصحراء) أثناء تحرير دولة الكويت الشقيقة وما تطلّبه التموضع العسكري من حفر خنادق وعمل دشم وعقوم وسواتر ترابية أدت إلى تجريف التربة وقولبتها وربما تغيير معالمها على امتداد صحراء السفانية والدبدبة وحتى حفر الباطن.
5- الغزو الرهيب الذي يمارسه هواة الرحلات البرّية والمتنزهون الجدد الذين يتحركون على شكل مجاميع وقروبات ويتسابقون على الفياض والريضان، بحثاً عن الأولوية في الوصول إليها، والتصوير والهياط، وأيّهم يوقد ناراً أضخم من نار الآخر في قلب الروضة المكتظة بالخزامى والنوار!
وبعضهم لا يتورّع عن (التفحيط) بسيارته وإتلاف الزهور الجميلة التي كان قد استمتع بها في تصرّف انتقامي مريض فضلاً عن مخلفاتهم وبقاياهم المخجلة، إلا من رحم ربي!
6- قد يكون هناك رعي جائر وخصوصاً من كبار تجار ومستثمري الأغنام الذين يمتلكون قطعاناً هائلة منها، تتحرك بالآلاف على نطاق واسع من الأرض، وتعرفها من خلال الغبار الذي يملأ الأجواء التي تتحرك فيها!
أما صغار مربي الأغنام ومعهم مربي الإبل فهم أشد المتضررين من هؤلاء المستثمرين الذين يجب أن يتم حصرهم في إطار مشاريع زراعية محددة!
غير أن ثمّة ظاهرة خطيرة جداً تهدّد البيئة بالتلوث على المدى البعيد، وهي أشد فتكاً من الرعي، ويجب أن يتنبّه لها (أهل الحلال) بشكل عام وهي المخلفات البلاستيكية الطائرة التي يتم قذفها للريح فور إفراغها من المكعبات (العلفية) فتذهب يمنة ويسرة وتشكّل كارثة بيئية حقيقية، فضلاً عن مخلفات (الشبوك) والمعالف التالفة والأسلاك المعدنية!
والأدهى والأمرّ تلك الحيوانات النافقة المتروكة في العراء، وهو ما يجب أن تلتفت له وزارة البيئة، وذلك بتشكيل فرق ميدانية لمسح البراري والقفار، وتنظيفها من هذه المخلفات، وتعقيمها، وتوعية (أهل الحلال) وإرشادهم للطرق الصحيحة والآمنة والممكنة في كيفية التخلص من المواشي النافقة، وتوفير المواد التي تساعدهم على ذلك، في ظل عدم قدرتهم على طمرها أو حرقها بالشكل المطلوب، وسن تشريعات وفرض عقوبات على كل من يتعمّد الإضرار بالبيئة.
والله من وراء القصد.