كنت أحلم بلقائه. التقيته أخيرا، كان ذلك في عام 2010 في صنعاء في منزله تحديدا. كانت المناسبة هي الأسبوع الثقافي السعودي - اليمني. كنت برفقة الصديق الشاعر أحمد السلامي والروائي الصديق علي مقري. هدوء شخصيته وتواضعه شجعاني على إهدائه بعض مجموعاتي الشعرية على خجل.
أحببته ليس كشاعر كبير فقط، ولا كرمز أدبي عربي. لكن أيضا لإنسانيته التي يندر لشاعر آخر بحجمه أن يصل إليها. كنت أنصت إليه بكل حواسي، وكأني أنصت إلى تاريخ الشعر وذاكرته. بكل بساطة رأيت فيه الإنسان وهذا يكفي. وليس غريبا على أبناء اليمن أن يعلمونا عمق إنسانيتنا في الإبداع الذي يكتبونه.
بعد فترة من رجوعي هاتفني أحد الأصدقاء وقال: لقد كتب عن تجربتك الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح. فرحت بها كثيرا. ثم حدث أن فقدت نسختي مما كتبه، ظللت أبحث عنها بين أوراقي وفي ذاكرة جهازي. لكن دون جدوى، حتى يئست تماما.
الأسبوع الفائت اتصل بي أحد الأصدقاء وقال لي: عندي بعض الأوراق الخاصة بك، أعتقد أنك نسيتها عندي منذ فترة، وعندما تصفحتها وجدت ما أبحث عنه منذ فترة طويلة، هذه القراءة بينها. كان فرحي بها ليس له حد. وهنا أضع بين يدي القارئ جزءا من هذه القراءة.
(كيف يستطيع الشاعر أن يكون مخلصا للواقع وللشعر في آن؟ هذا هو السؤال الذي خرجت به من قراءة الأعمال الشعرية الصادرة للشاعر محمد الحرز، ومنها عمله الشعري الأخير الذي قرأت نسخة منه قبل صدوره، فقد كان الشاعر في زيارة قصيرة إلى صنعاء في العام الماضي 2010، ومنحني هذا السبق الذي اعتز به، وهو ما دفعني إلى إعادة قراءة أعماله السابقة وفي طليعتها مجموعته الأولى (رجل يشبهني).
وأعود إلى السؤال الذي افتتحت به هذا الحديث وهو: كيف يستطيع الشاعر أن يكون مخلصا للواقع وللشعر في آن، في محاولة للإجابة عنه، مع الاعتراف سلفا بأن أية إجابة لن تكون سوى محض محاولة، فالسؤال أصعب من أن تستوعبه إجابة واحدة أو مجموعة من الإجابات، لأن العلاقة بين الواقع والإبداع شائكة وشديدة التعقيد لا سيما بعد أن سقطت نظرية الانعكاس في النقد الأدبي وباتت مع نظريات نقدية أخرى في حكم النسيان وحلت محلها نظريات حديثة متمردة تستجيب لذائقة العصر وتنأى بالإبداع عن المباشرة واجترار المعاني المستهلكة وتؤسس لكتابة تصنع باللغة منطوقها وذاكراتها وتشكيلها المفارق لما تم التعارف عليه من معايير الشعر السائد وجماليته، وتدعو إلى كتابة انقلابية بكل ما تعنيه الكلمة من إصرار على البحث عن مناخ خاص والدخول به في مسالك وانزياحات وصور لم تتوارد إلى ذهن شاعر من قبل، وفي تقديري أن مجموعة (رجل يشبهني) تشكل بفضائها الشاسع ردا عمليا لا يحتمل اللبس والمواربة على السؤال السابق:
رجل يمسح أرصفة الشمس
بظِل
من يده اليمنى
ويظل النهر المشدود
بعتمة أيدي الليل
يقبّل أحجارا
من يدِهِ اليسرى (ص 5)
اللغة هنا لا تقصي الدلالة بل تتماهى معها، وقد تزيحها جانبا عن طريق الشعر لتعود إليها بعد أن يكون الشعر قد مارس وجوده وتألقه، وهو ما لا تفعله نصوص كثيرة تدعي أنها تنتمي إلى قصيدة النثر، وهي ليست كذلك وهو مما جعل البعض لا يرى فيها شعرا يملأ الروح نشوة والجسد انفعالا، كما فعل معنا النص القصير السابق، علما بأن أغلب نصوص المجموعة في المستوى نفسه من الاقتصاد في العبارة واستقطاب للحواس، حيث لم يعد الشاعر جوّاب عصور وأمكنة يلتقط صورة من هنا وأخرى من هناك، وإنما صار أهم ما ينبغي الانتباه له هو التحليق في أجواء نفسه والبحث في جسده هو، وأجساد الأشياء من حوله.
ولم يكن النص السابق سوى رحلة تمارسها يداه اليمنى واليسرى، وكان لابد من استدعاء (يَدَيْ الليل) لتكتمل اللوحة التي تجمع بين النص الحاضر والخطاب المضمر أو الغائب. وهو ما قد يتجلى بوضوح أكبر في هذا المقطع من نص آخر:
في غفلة من كآبته..
أحلامه اندلقت
قرب السرير
مثل غيمة
انحدرت من جبل يقف متكئا
على حافة شرفاتهم
المتعبة. (ص 19)
أعترف أنني أحببت هذه المجموعة الشعرية لمحمد الحرز، مع أنها الأولى في مساره الإبداعي، وشعرت نحوها بشغف خاص، بوصفها شعرا لا يكشف عن مضامين متوقعة أو يبوح بوقائع يكتنفها الغموض، ولأنها - وهي تحملك بعيدا عن كل ما هو عادي واقعي- تجعلك مغمورا بواقع قد يكون تذكاريا لم تره من قبل ولكنك تحسه وتشعر نحوه بجاذبية خاصة).
@MohammedAlHerz3
أحببته ليس كشاعر كبير فقط، ولا كرمز أدبي عربي. لكن أيضا لإنسانيته التي يندر لشاعر آخر بحجمه أن يصل إليها. كنت أنصت إليه بكل حواسي، وكأني أنصت إلى تاريخ الشعر وذاكرته. بكل بساطة رأيت فيه الإنسان وهذا يكفي. وليس غريبا على أبناء اليمن أن يعلمونا عمق إنسانيتنا في الإبداع الذي يكتبونه.
بعد فترة من رجوعي هاتفني أحد الأصدقاء وقال: لقد كتب عن تجربتك الشاعر الكبير عبدالعزيز المقالح. فرحت بها كثيرا. ثم حدث أن فقدت نسختي مما كتبه، ظللت أبحث عنها بين أوراقي وفي ذاكرة جهازي. لكن دون جدوى، حتى يئست تماما.
الأسبوع الفائت اتصل بي أحد الأصدقاء وقال لي: عندي بعض الأوراق الخاصة بك، أعتقد أنك نسيتها عندي منذ فترة، وعندما تصفحتها وجدت ما أبحث عنه منذ فترة طويلة، هذه القراءة بينها. كان فرحي بها ليس له حد. وهنا أضع بين يدي القارئ جزءا من هذه القراءة.
(كيف يستطيع الشاعر أن يكون مخلصا للواقع وللشعر في آن؟ هذا هو السؤال الذي خرجت به من قراءة الأعمال الشعرية الصادرة للشاعر محمد الحرز، ومنها عمله الشعري الأخير الذي قرأت نسخة منه قبل صدوره، فقد كان الشاعر في زيارة قصيرة إلى صنعاء في العام الماضي 2010، ومنحني هذا السبق الذي اعتز به، وهو ما دفعني إلى إعادة قراءة أعماله السابقة وفي طليعتها مجموعته الأولى (رجل يشبهني).
وأعود إلى السؤال الذي افتتحت به هذا الحديث وهو: كيف يستطيع الشاعر أن يكون مخلصا للواقع وللشعر في آن، في محاولة للإجابة عنه، مع الاعتراف سلفا بأن أية إجابة لن تكون سوى محض محاولة، فالسؤال أصعب من أن تستوعبه إجابة واحدة أو مجموعة من الإجابات، لأن العلاقة بين الواقع والإبداع شائكة وشديدة التعقيد لا سيما بعد أن سقطت نظرية الانعكاس في النقد الأدبي وباتت مع نظريات نقدية أخرى في حكم النسيان وحلت محلها نظريات حديثة متمردة تستجيب لذائقة العصر وتنأى بالإبداع عن المباشرة واجترار المعاني المستهلكة وتؤسس لكتابة تصنع باللغة منطوقها وذاكراتها وتشكيلها المفارق لما تم التعارف عليه من معايير الشعر السائد وجماليته، وتدعو إلى كتابة انقلابية بكل ما تعنيه الكلمة من إصرار على البحث عن مناخ خاص والدخول به في مسالك وانزياحات وصور لم تتوارد إلى ذهن شاعر من قبل، وفي تقديري أن مجموعة (رجل يشبهني) تشكل بفضائها الشاسع ردا عمليا لا يحتمل اللبس والمواربة على السؤال السابق:
رجل يمسح أرصفة الشمس
بظِل
من يده اليمنى
ويظل النهر المشدود
بعتمة أيدي الليل
يقبّل أحجارا
من يدِهِ اليسرى (ص 5)
اللغة هنا لا تقصي الدلالة بل تتماهى معها، وقد تزيحها جانبا عن طريق الشعر لتعود إليها بعد أن يكون الشعر قد مارس وجوده وتألقه، وهو ما لا تفعله نصوص كثيرة تدعي أنها تنتمي إلى قصيدة النثر، وهي ليست كذلك وهو مما جعل البعض لا يرى فيها شعرا يملأ الروح نشوة والجسد انفعالا، كما فعل معنا النص القصير السابق، علما بأن أغلب نصوص المجموعة في المستوى نفسه من الاقتصاد في العبارة واستقطاب للحواس، حيث لم يعد الشاعر جوّاب عصور وأمكنة يلتقط صورة من هنا وأخرى من هناك، وإنما صار أهم ما ينبغي الانتباه له هو التحليق في أجواء نفسه والبحث في جسده هو، وأجساد الأشياء من حوله.
ولم يكن النص السابق سوى رحلة تمارسها يداه اليمنى واليسرى، وكان لابد من استدعاء (يَدَيْ الليل) لتكتمل اللوحة التي تجمع بين النص الحاضر والخطاب المضمر أو الغائب. وهو ما قد يتجلى بوضوح أكبر في هذا المقطع من نص آخر:
في غفلة من كآبته..
أحلامه اندلقت
قرب السرير
مثل غيمة
انحدرت من جبل يقف متكئا
على حافة شرفاتهم
المتعبة. (ص 19)
أعترف أنني أحببت هذه المجموعة الشعرية لمحمد الحرز، مع أنها الأولى في مساره الإبداعي، وشعرت نحوها بشغف خاص، بوصفها شعرا لا يكشف عن مضامين متوقعة أو يبوح بوقائع يكتنفها الغموض، ولأنها - وهي تحملك بعيدا عن كل ما هو عادي واقعي- تجعلك مغمورا بواقع قد يكون تذكاريا لم تره من قبل ولكنك تحسه وتشعر نحوه بجاذبية خاصة).
@MohammedAlHerz3