الدولة بيروكي

يختلف الخطاب الشفوي عن المدون أي أن هذا الأخير ثابت ومستمر يبقى على حاله لا يتغير، فالتدوين قيد للكلام الشفوي وضامن لاستمراره في الزمان والمكان، فلا يمكن تعقله أو فهمه إلا إذا مر عبر الإدراك، ولذلك يستطيع القارئ لأي نص أن يدركه في جل تفاصيله.

وأما الخطاب الشفوي فهو دائما طوع صاحبه وإيقاع الصوت في توحيد مقصده، يتطرق فيه كيفما شاء ووقتما شاء وإذا قيده بقيود الكتابة انسلخ من مكانه.

كان الأصمعي يردف العلم بالتقوى، فكان متدينا بارعا إلى حدود الصرامة في الدين، ويلزم مجالسة أصحابه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم النجوم فأمسكوا» ولم يفسر قط قصيدة فيها نجوم امتثالا لهذا القول، ولا ينشد شعرا فيه هجاء.

وكان شعره خاليا من الكفر بل أغلب تفسيره يأتي من القرآن الكريم، مع أن الشعراء الذين عاشوا في ظل الدولة الإسلامية عبروا عن المدح والهجاء والذم والفخر.

إن الأصمعي كان ناقدا للشعر محنكا ومتمعنا في الصراع النقدي الذي ظهر إبان الحكم العباسي في القرن الثاني الهجري وبارعا بين الشعراء كما ذكر ذلك في كتاب الموشح للمرزباني.

فالقصة الشفوية التي جعلت من الأصمعي بعد وفاته أن تدون قصائده، في التغيير الذي طرأ على وظيفة الشعر في الصدر الأول وتحويله إلى مؤسسة تخضع لقانون الدولة العباسية قد أضر كثيرا بالشعر القديم على حسب رأي النقاد.

فالأصمعيات والمفضليات لا ترويان عطش الباحث الملهم في الشعر عموما، وربما صدق الذين ذكروا أن المفضل اختار قصائده للمهدي وهو لا يزال طالبا للعلم وسار الأصمعي على دربه حتى لا ينحاز عنه في التدوين الذي كان لابن سلام الجمحي فضل فيه.

‏السياسة تتغير، المفكرون يتغيرون بين لحظة وضحاها وأما الثقافة فهي باقية بأوجه مختلفة، ولما كان الإنسان يلمز بالفكرة ولم يع ضررها أو نفعها عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتي تشهد تذبذبا رهيبا، فهناك تضارب بين الطبيعة السياسية والطبيعة الثقافية، ففي بعض البلدان المتغيرة والتي تعصف بكل صراعاتها التي ما فتئت إلا أن تعود إلى حالها، فلا تدع السياسة تفسد إنسانيتك كما قالها امبروز، وأنا أقول لا تدعها تفسد أخلاقك وفكرك وثقافتك، فالفرق بين التدوين والشفاهة قد يكون بكلمة منك.

Bairoukidevlet