د. محمد حامد الغامدي

الحب عندنا نحن العرب منهج عفوي وطاغٍ، وقد يكون فطريا. لكننا في غرابة نجمع الحب والحرمان في نفس الوعاء وبنفس الوقت. حب العرب له طقوسه المرئية والمحجوبة. له مدارسه المتنوعة والمتعددة، ونجدها مفتوحة أمام الجميع، نساء ورجالا، صغارا وكبارا. الكل في ميدانه أبطال يدعون الحرمان. يقودنا الحديث عن هذا الحب العربي بكل أشكاله إلى عالم التجلّي والإبداع في وصف المشاعر الطموحة، المحبة للحياة، وهذا هو الأهم.

نعيش -كعرب- على مسرح الحب الخلّاق نناجي النجوم، ونغازل قمرها الدائري المشع في الظلام، وغدرة المكان. يكفي نسيج نوره حولنا على الأرض ليلا، ليحوله عقلنا العربي إلى طاقة، لتوليد المشاعر الزاخرة بالتفاؤل في عالم الحرمان، والمعاناة التي نبتكرها لأنفسنا.

هل تعرفون الخيال؟ إنه محور هذا الحب العربي ووسيلته لنقل نفوسنا إلى مسارات تؤتي أكلها بكلمات منظومة، تنفث سحر التفاعل، ثم نتحرك كأوراق الشجر عندما تتفاعل برفق مع الهبوب البارد النسمات. نوظف هذا الخيال العربي بشكل جامح، سعيا لإتقان تعظيم التلذذ بمادة محتواه التي لا تتكرر في داخل أي فرد آخر. عند العرب كل بخياله ومشاعره ينعم ويعيش ويتلذذ.

اخترعنا درجات الحب، لتظل مشاعرنا متقدة العطاء في أي وضع، خاصة مع ندرة الماء وجفاف الأرض. وقد جعلنا -كعرب- هذا الحب صناعة مستدامة التطور والتعظيم والشأن، دائمة الفوز والانتصار. ننشره بيننا مادة لحياة محفزة وزاخرة بالغيوم الممطرة في ظل جفاء البيئة، وقسوة مناخها. الجميل أنه بقصائدنا وبهذا الخيال نغسل أنفسنا من عناء الحياة وتحدياتها. كأن وظيفة مادة هذا الخيال الأساسية غسل أنفسنا العربية بشلالات كلمات مشحونة بدفق مشاعر استثنائية. ثم نقول: الحب عيب.

هكذا كان التلقين في صغري: الحب عيب. وحتى لا نستسلم -كناشئة- أمام جبروته وننساق خلف تداعياته، كانت التربية تعمل على وأد بوادره في نفوسنا أولا بأول. ثم نعمل -كنتيجة- على تحويله إلى طقوس أخرى أكثر قبولا لواقع الحال الذي نعيش. لكن هناك مَن يتمرد فيعلن حبه شعرا، ثم يصفونه بالعذري، وذلك لتمرير قبوله. يعلمون أنه غير قابل للتطبيق. أي أنه غير صادق. هذا يعني بأن الحب عند العرب أشبه بوظيفة (WI Fi) يمرر موجات مشاعر. يا لعظمتنا اخترعناه مبكرا ليعظم ويمرر مشاعرنا الدافئة إلى فضاء واسع غير مسيطر عليه. (الواي فاي) صناعة مشاعر حب عربية قديمة تتجدد ولا تموت.

جعلنا للحب العربي مدارس ومناهج في الحياة. نحمل الحب واللين المصاحب لقوامه في قلوبنا النابضة بالحياة، لكننا نظهر القساوة والصرامة في ملامحنا وتصرفاتنا. هكذا -كأفراد- نكون مثل جبل مهيب حنطي اللون، كل مكوناته الخارجية من الصخر الصلد، وبداخله كنوز الدنيا وسر سعادتها. هذه الحالة ترفع أسهم العربي في ساحات لا ينفع الحب معها لكثرتها وسيادتها. ونتيجة لذلك كانوا يرون النساء بمنظر يجعلهم يقولون لبعضهم عند ذكرها: (وأنتم بكرامة).

صور (وأنتم بكرامة) تلاشت. فهل هذا لصالح النساء العربيات؟ لم يكن ذلك التصرف جهلا عربيا قبيحا كما يبدو، لكنها متطلبات مرحلة كانت تفرض تلك التصرفات. العرب يعرفون قيمة المرأة، فهي ركيزة عطاء مشاعرهم، لكنها رغبة الرجولة الجامحة لتقديم النفس الذكورية فدوة للنساء. إنها مناورة لصالحهن. تغييب حبهن وعشقهن عن الآخرين، حتى من نفس المجتمع، كانت فضيلة سائدة، ربما لإعطاء النساء قوة خفية تمكنهن من السيطرة من حيث لا يعلمون أو يعلمون.

كضحية لهذا الحب العربي ومسارته حمدت الله على سلامة نفسي العربية. في لحظة حب بعت نفسي. في لحظة حب خسرت نفسي. في لحظة حب وجدت نفسي أقرب إلى الموت. في لحظة حب وجدت نفسي أقرب إلى الجنون. مع كل حب كنت أردد: صعبا علي جفاك. هذا عالمي مع الحب العربي النادر. ما خفي كان أعظم. ماذا عنكم بعيدا عن ندرة المياه التي تتجاهلون؟

twitter@DrAlghamdiMH