محمد الحرز

الفرد العربي بطبعه انفعالي حيال القضايا، التي تمس الكرامة والظلم والقهر والتسلط، وحيال أيضا القيم التي تتسامى بالنفس كالشجاعة والجرأة والشرف والمروءة.

القضية الفلسطينية تعتبر أبرز تلك القضايا، التي تعكس هذه الحالة بصورة واضحة، فبمجرد ما تنتشر صور القتل والدمار الذي يطال الفلسطينيين على يد الآلة الحربية المحتلة إسرائيل، على وسائل الإعلام، سرعان ما نرى الغضب يعم الشارع العربي، معبرا عن نفسه بطرق شتى كلا حسب إمكاناته.

قد تكون حالة الغضب التي تتملك الفرد العربي حيال قضية عادلة كقضية فلسطين ردود فعل طبيعية، يحدث في كل المجتمعات، وفي كل الأمكنة، والشواهد كثيرة من التاريخ القريب والبعيد.

وقد تعلم الفرد العربي أيضا من طول تاريخ القضية الفلسطينية دون حل نهائي لها، أن الخروج بالتنديد والتظاهر، في كل مرة يرتكب فيها العدوان الإسرائيلي مجزرة هنا أو هناك، هو خروج يندرج ضمن الواجبات الملزمة أخلاقيا ووطنيا وعربيا، بحيث أصبح أمرًا طبيعيا، ومن كبرى المسلمات التي تراه لا يحتاج إلى نقاش.

لم ينقسم الشارع العربي ( الشعوب العربية) على نفسه حيال القضية الفلسطينية. كان الانقسام يطال النخب السياسية الحاكمة منها والنخب المثقفة القريبة من أصحاب القرار، وقع الانقسام والصراعات جاءت على خلفيات ودوافع ومصالح متضاربة، فمفهوم السلام منذ أوسلو وما بعدها، فضلا عن كونه لم يتم الاتفاق عليه بين الفرقاء، ولم يتم تفسيره وفق إجماع عربي كلي، فإن المصالح لعبت دورها من تحت طاولة السلام المزعوم، فتعمق الانقسام وتوسع الشرخ.

رغم ذلك ظلت الشعوب العربية متوحدة في مواقفها حيال الحق الفلسطيني، بعيدا عن التجاذبات السياسية العربية.

لكن مع توالي الأحداث منذ غزو العراق 2003 وما تلاه من أحداث، بالخصوص أحداث ما يسمى بالربيع العربي وثوراته 2011 حدث انفجار في الشارع العربي عكس بصورة مباشرة الأثر الكبير، الذي أحدثته في ذهنية الفرد العربي، على مستويين:

المستوى الأول ذهنية النخب المثقفة، إذ فجأة بعدما كانت هذه الذهنية تتسم بمواقفها اليسارية المنفتحة على شعوب العالم، أصبحت بقدرة قادر يمينية متطرفة، والذهنية التي تحتكم إلى الليبرالية في مواقفها وسلوكها دخلت في حالة من التدين المسيس. ناهيك عن الذهنيات المتحزبة سياسيا، أو أصحاب المشاريع السياسية، التي تستثمر في الأحداث الكبرى.

أما المستوى الثاني، فهو ما يتعلق بذهنية عامة الناس من الشعوب العربية، فبعدما ظلت القضية الفلسطينية بعيدة عن التسييس في هذه الذهنية، وبعدما كانت القضية نفسها هي الهم المشترك الذي لا يعادله هم آخر ولا ينافسه، وبعدما كانت هي الوحيدة التي ينظر إليها على أنها آخر القضايا الحقوقية في العالم المعاصر لم تحل، وأننا إذا ما أردنا النهوض كعرب علينا السعي للخروج منتصرين من هذه القضية.

بعد هذا كله، أصبحت القضية عند بعض الذهنيات في المرتبة الأدنى من الاهتمام، والدوافع والمبررات كثيرة. فلو أخذت جولة في عموم الوطن العربي، ما الذي سوف تراه؟

أغلب السوريين تشردوا عن أرضهم، طالتهم يد التهجير والقتل على الهوية، أرضهم أصبحت مرتعا للطائفيين وميليشياتهم من إيرانيين ولبنانيين وأفغان. ناهيك عن الروس الذين وجدوا موطأ قدم لهم فيها. فكيف لهم والحالة هذه أن تكون القضية على رأس أولوياتهم؟ وما ينطبق على سوريا ينطبق على العراق واليمن وليبيا وتونس ولبنان، الكل أصبح مشغولا بهمه اليومي ومعيشته وتدبير حياته، بحيث أصبحت أولى الأولويات، وما عداها تفصيل صغير.

لكن تغير الأولويات يتبعها تغير في المواقف وحتى القناعات، فبعد الشعارات التي ظلت ترددها هذي الجموع عن أمة عربية واحدة، جاءت شعارات طائفية ومذهبية، يحتمي تحت سقفها الفرد اتقاء من أثر هذه الأحداث.

وعلى سائل أن يسأل مستنكرا: لكن رغم ذلك تظل القضية الفلسطينية الأولى عربيا وإن لم تحظ حاليا بذلك؟

ربما يكون صحيحا من وجه. ولكن من وجه آخر: بماذا تفسر موقف الطائفي، المتجذر في طائفته الذي لا يرى في المجازر، التي يقوم بها نظام الأسد أو الميليشيات التابعة لحزب الله ضد الشعب السوري، ما يغري بالتنديد أو حتى الاحتجاج، بينما غارة صاروخية إسرائيلية على غزة تقوم الدنيا ولا تقعد، وتورم نواجذه ويندد بالخونة العرب والمطبعين.

حسنا نحن نعرف ذلك. لكن أين أخلاقك من معاييرك المزدوجة؟!