أ. د. هاني القحطاني

Hanih@iau.edu.sa

هيمن خبر وفاة الملكة إليزابيث الثانية على شاشات التلفزة الأسبوع الماضي، ومازال مشهد التأبين جاريا حتى كتابة هذه السطور، وهو لم يصل إلى ذروته بعد. الحديث عن ملكة تربعت على عرش الإمبراطورية لسبعين عاما ليس له إلا أن يكون حديثا ذا شجون. فمن بين كل الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ كانت بريطانيا هي الوحيدة التي لا تغيب عنها الشمس، وفي هذا إشارة بالغة الدلالة، ليس على عظمة الإمبراطورية ونفوذها وهيمنتها على العالم فحسب، بل إنها تلخص تاريخ العالم برمته في القرن التاسع عشر وما قبله وبدايات القرن العشرين.

وكأي دولة أو إمبراطورية أخرى، فإن جغرافية بريطانيا قد صنعت تاريخها وما زالت. فعلى عكس الإمبراطوريات القارية الممتدة على اليابسة فإن بريطانيا جزيرة متوسطة الحجم في أقصى الامتداد القاري لأوراسيا يتبعها عدد من الجزر الأصغر. تلك حقيقة جغرافية، كما أن بريطانيا سابقة تاريخية. لم يعرف تاريخ العالم جزيرة كتبت تاريخ العالم كما فعلت بريطانيا. والتاريخ المقصود هنا ليس تاريخ السياسة ونشوء الدول وزوالها فقط، إنه التاريخ بكافة أبعاده الاجتماعية والعلمية والفكرية والمادية والحضارية.

لقد هيأ موقع الجزيرة لها ما لم يهيئه لدول القارة. وبدءا من استيطان قبائل الإنجلز والساكسون الجزيرة، إلى الغزو الروماني لها، فزوال الملكية ثم عودتها مرة أخرى، فالغزو النورماندي، فانشقاق الملك هنري الثامن عن البابوية في روما، وإعلان انجلترا مملكة مستقلة دينيا وترؤس الملك نفسه لكنيسته الإنجليكانية، وما رافق ذلك من تحول ديني عميق، تبعه تحول سوسيولوجي أعمق، نحتت السلطة في هذه الجزيرة مفهومها الخاص بها عن تكون الدولة والدين في سياق تكون الدول في أوروبا المسيحية. وعندما فرغت من ذلك أتى الدور على الجانب الاجتماعي، مرت بريطانيا في عمليات اجتماعية، بحثت خلالها عن الشكل الأمثل لعقد اجتماعي بين السلطة والمجتمع، تمخض في النهاية عن ولادة البرلمان البريطاني الذي ميز الحياة السياسية البريطانية ورسم سياستها منذ العصور الوسطى. رافق ذلك كله ومن قبله ومن بعده حروب ونزاعات قارية مع دول القارة، ومع فرنسا تحديدا، وداخلية ضمن العائلات الملكية في الجزر البريطانية، عرفت بريطانيا استقرارا سياسيا مهد لها الطريق لترسم تاريخ العالم.

فها هو اسحق نيوتن يفك سر حركة الأجسام والفيزياء ويقدم للبشرية قوانين الجاذبية، وها هم المفكرون الإنجليز من أمثال جون لوك وتوماس هوبز، جنبا إلى جنب مع أمثالهم الأوروبيين يمهدون الطريق لعصر تنوير ساد القارة بكاملها، وها هو آدم سميث يؤسس لاقتصاد السوق كما يعرفه العالم اليوم. هذه الاختراقات على صعيد الدولة والمجتمع مهدت الطريق لكي تقود بريطانيا العالم. ها هي الثورة الصناعة تولد في بريطانيا التي صنعت المحرك البخاري والحديد والصلب ودشنت عصرا جديدا في تاريخ العالم، إشارات المرور، الطوابع البريدية، نظام الرعاية الصحية ولك أن تضيف ما شئت كل ذلك نتاج بريطاني خالص.

هذا الإرث الحضاري الذي سادت به بريطانيا العالم بدا كأوضح ما يكون في مراسم تشييع الملكة الراحلة. إنه لمشهد لك أن تراه لا أن تصفه. عم تتحدث؟ عن المعاني الرمزية للجنازة، أم عن ارتباطها بالسيرة الذاتية لملكة تربعت على عرش الإمبراطورية سبعين عاما، أم عن الدقة والانضباط في حركة الجنود والخيالة والملك الجديد بألبستهم الملونة ونياشينهم، وراء النعش، على الإيقاع الموسيقي المرافق لموكب الجنازة. هذا الموكب الجنائزي الاستثنائي ربما كان الأشهر في التاريخ المعاصر صناعه بريطانية فخمه عريقة يعكس تقاليد مجتمع ودولة ترسخت جذورها عميقا في التاريخ.

للموت رهبة، ولكل أمة ولكل ثقافة طريقتها الخاصة في دفن موتاها. بالأمس القريب غادر ميخائيل جورباتشوف العالم ولم يسمع به أحد، بالرغم من أنه صنع تاريخا لم تصنعه الملكة الراحلة بل لم تفكر به. انظر إلى هذه وذاك تجد الفرق بين دولة عرفت يوما بالاتحاد السوفيتي وبين الإمبراطورية البريطانية أو لتحري الدقة ما بقي منها. فلله الأمر من قبل ومن بعد.