محمد الحرز

لا أبالغ إذا ما قلت إننا إذا ما أردنا أن نفهم طبيعة الإبداع الذي ينتجه أي مجتمع، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات فذلك يبدأ من جانبين، وكل جانب يرفد الآخر ويكمله.

أولهما الطفولة باعتبارها طريقة في تلقي العلم من خلال البيت، المدرسة، وثانيهما العادات والتقاليد المؤثرة في السلوك والتربية، وفي العلاقات الاجتماعية والثقافية بوجه عام.

وقبل أن أسترسل في تبيان وشرح هذين الجانبين، علي أن أوضح المقصود بفكرة المبالغة، وأصدق مثال على هذه الفكرة هي تلك الدراسات التي تقوم، إما بربط النصوص بشخص المبدع ربطا بطرق منهجية متعددة: أسلوبية لغوية وتداولية ألسنية ونفسية واجتماعية، على اعتبار أن هذا الربط لا يخرج عن حدود علاقة الفرد المبدع بنصه، إلى علاقات أكثر رحابة، ترتكز فيها على ظواهر اجتماعية، بحيث تضفي على هذا الربط القدرة على تفسير الإبداع تفسيرا شموليا، يأخذ بعين الاعتبار جدلية المجتمع والفرد في تأثيرها الكبير على إنتاج نصوص المبدع وتصوراته عنها.

بل إن مثل هذا التأثير يتيح للباحث ربط الجوانب الأخرى من هذه الجدلية كالجانب السياسي والاقتصادي والديني بالتصورات التي تتحكم من العمق في إنتاج المبدع لنصوصه، أو لمنجزه على العموم.

أو تقوم مثل هذه الدراسات بربط النصوص بعضها ببعض من خلال دراسة أثر جيل من المبدعين على آخرين من جيل متقدم، عن طريق التناص وآلياته فقط.

لكن للأسف أفق هذا الربط ظل حبيس الطرق المنهجية التي يتبناها الباحثون الأكاديميون في جامعاتنا ومن طرف بعض النقاد أيضا، ومن أراد أن يتأكد، فما عليه سوى استعراض نماذج من الرسائل الجامعية، في النقد الأدبي على الخصوص مثل «شعرية العتبات» أو التداولية في تجربة (س) من الشعراء، أو البحث عن التقنية في شعرنا الحديث كما اقترح أحدهم... إلخ.

لذلك تناول طبيعة الإبداع من هذين الجانبين كما اقترحنا هي ضرورة ملحة، وذلك لاعتبارات عدة، أهم هذه الاعتبارات على الإطلاق، يندرج ضمن محاولة فهم طبيعة الإشكالية التي نراها واضحة المعالم في فضاء الممارسة الإبداعية داخل المجتمع السعودي، ولكي أبين طبيعة هذه الإشكالية، سأركز من بين الممارسة الإبداعية على الشعر كونه المثال الأكثر وضوحا في تبيان ما نريد قوله.

عندما تسلل النص الشعري الحديث (النص السردي المفتوح على التجريب، قصيدة النثر بأنواعها أو النثر الشعري كما يقترح أحدهم) إلى جيل التسعينات، وكاتب المقال واحد منهم، كان الانحياز في كتابته عند هؤلاء نابعا من قناعة تامة، اكتسبها من احتكاكه بالتجارب العربية التي حملت لواء التجديد والحداثة الشعرية، سواء كان هذا النوع من الاحتكاك قراءة لنصوصهم أو آرائهم أو محاورتهم مباشرة.

وكان الرهان على هذا النوع من الكتابة الإبداعية سيكون في نهاية المطاف، في نظر هؤلاء هو مستقبل الثقافة الإبداعية في المملكة.

وإذا كانت فترة التسعينات لم تشهد المملكة التحولات والمتغيرات الكبيرة كما تشهدها الآن على جميع الصعد والمستويات، على اعتبار أن تلك الفترة لم يكن مرحبا بتجاربهم، لا في الدراسات الأكاديمية ولا النظام التعليمي العام. ناهيك عن كونها في الذائقة العامة ليست من الشعر بشيء. إلا أن كتابها لم يتضعضع إيمانهم بها وبمستقبلها في الثقافة السعودية.

وحينما حانت لحظة إيمانهم بمستقبلها من خلال هذا الانفتاح على ثقافات العالم التي نعيشها الآن حدث نوع من الانتكاسة، ونوع من المفارقة، وهذا هو مربط الفرس الذي نسميه الإشكالية.

كان على الشعر أن يواكب تحولات المجتمع السعودي، والمواكبة لا تعني هنا التعبير عن هذه التحولات، بالقدر الذي تفتح هذه التحولات انطلاقا من إمكانات الحرية المتاحة مناطق تعبيرية غير مرتادة، وأراضي «بكر» في الكتابة كما هو حال بقية الفنون كالسينما والرواية والمحاولات الجادة في المسرح.

لكن المفاجأة لم يتقدم خطوة إلى تلك المناطق، كما هو المتأمل، وصحونا على عودة قوية إلى كتابة الشعر العمودي باعتباره تجديدا.

والسؤال الذي اختم به المقال:

لماذا اعتبرنا هذه العودة إلى الشعر العمودي نوعا من النكوص، والشعر الحديث هو المستقبل، في حين أن الأجناس الأدبية وأنواعها لا يجري عليها مجرى التطور المعرفي التاريخي؟ إجابته وتحليله في مقال قادم.

@MohammedAlHerz3