قد هيمنت التكنولوجيا على البشر في هذا العصر الجديد، وتخلت المجتمعات عن كُل ما هو متأصل في الثقافات المختلفة من ثوابت وعادات كانت صامدة لعصور وسنوات عديدة، واتجهوا إلى الرقمنة والعادات المستحدثة في حياتهم اليومية، يفتقد الإنسان اليوم للقاء الحقيقي للأجساد، فقد كانت الزيارات العائلية الأسبوعية من أساسيات الحياة، وكان الأطفال لديهم تعلق بمن حولهم وبما يجدونه خلال تلك الزيارات العائلية الدافئة من أحضان ولعب وتبادل القصص، وكان كبير السن يفرح بوجود أبنائه من حوله كل يوم ليتشارك معهم فنجان قهوته، ويقص عليهم تفاصيل يومه، وكان الأخ يُمسك بيد أخيه عندما يرى بعينيه ما يحزنه، ويخرجه من حزنه بهمسة مضحكة.
أما الآن فإننا نفتقد لتلك الثوابت الصلبة ونتجه لسرعة الحياة السائلة في عالم التقنية، فتبدلت الزيارات العائلية بمجموعة تضم جميع أفراد العائلة في تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، يتواصلون فيما بينهم بالكتابة والأحرف الجامدة الخالية من المشاعر الحقيقية والتفاعلات الجسدية، وأصبح الطفل يقضي معظم يومه خلف شاشات الأجهزة، وأصبح كبير السن يفتقد لروح أبنائه من حوله، وأصبح الأخ يتعرف على مشاعر أخيه من خلال الصور المزيفة، وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي رمزًا رَسْمِيًّا لإقامة العلاقات الاجتماعية المختلفة.
فتفككت العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، ونتج عن ذلك عزلة اجتماعية لأشخاص يتمتعون بقدر عال من الثقافات والاطلاع على العالم، والعلم المنفتح، والقدرة الكتابية العميقة خلف الشاشات، ولكن عندما يُجْبِر الفرد على مواجهة الحياة الحقيقية يصبح بفوضى عارمة بينه وبين ذاته، لخوفه من عدم مقدرته على التحدث وجهًا لوجه والتفاعل مع الآخرين، لاعتياده على الحياة الافتراضية في علاقاته بأصدقائه، ومجموعات اللعب وزملاء الدراسة والنقاشات العلمية.
وأصبح العالم يعيش حياة غير حقيقية معدمة من وجود التواصل الجسدي، بمشاعر وتفاعلات وعلاقات تتجسد في رسوماتٍ وأحرف وكلمات، فقد توصل الإنسان بعقله وذكائه واختراعاته، للتطور التكنولوجي المُخيف، إذ نستطيع أن نرى العالم أجمع في لَحْظة واحدة، نتحدث مع الكثير بِضَغْطِة زر، الحياة أصبحت مملة هادئة وصامتة، تفتقدُ البشرية اليوم للحب الصادق وللاشتياق والضحكات العالية، ووجود الأرواح بجانبِ بعضها البعض، تفتقد البشرية للواقع والحقيقة والوجود، أصبح الإنسان بعيدًا كُل البُعد عن واقعه، وحقيقته أصبح وكأنهُ روبوت صُنع لمحاكاة الاختراعات العقلية، وحقيقته لا تُرى لأنها استسلمت للرقمنة والتطور وتخلت عما لديها من ثوابت وقيم راسخة منذ الأزل.
تويتر: @Sultansara244