د. محمد حامد الغامدي

يردد الرجال في مجالسهم: [يا صالبي البن.. حَبّة.. فوق حَبّة]. هذا ما بقي من كلمات رسخت في ذاكرتي طفلا لم يتجاوز الخامسة. شجر (البن الصّالبي) المزروع في مدرجات جبل شدا المشهور، بمحافظة المخواة بمنطقة الباحة، كان مصدر قهوتهم المُرّة. جعلوها قيمة اجتماعية تتوارثها الأجيال. يحتسونها بأوقات تطفئ فيها تعب عملهم اليومي. لم تكن مشروب ترف. لها طقوس مهارية، وأدوات وتاريخ بحكايات وثقافة ومعايير. مشروب ساخن، بلون بشرتنا السعودية العربية الحنطية. جعلنا قهوتنا مشروبا تقليديا نتوارثه، ونتقن فنون إعداده وتقديمه في (فنجان) صغير خاص. مشروب بأبعاد إنسانية، حيث يرى السعودي الكرم من خلال (فنجان) قهوة يقدمه لضيفه، ولـ(نفسه) وقت التأمل، وانطلاق الأنفاس في الفراغ الواسع من حوله.

تعلمت عشق القهوة في بيت أخوالي. أتقنت مهارة إعدادها. تفاخرت شابا بإتقان متطلبات صبّها، وتقديمها في مجالس كبار القرية والضيوف، حيث تتعلم الأجيال من هذه المجالس مع شرب قهوتهم الملهمة، بعلومها الثابتة والراسخة في أعماق تاريخ أرضها. ارتبطت سمعتها بالشخصية السعودية المثابرة، النشمية، صاحبة الكيف العالي المقام. وعندنا -كسعوديين- سبقت شهرة قهوتنا شهرة نفطنا.

مراحل إعداد (فنجان) القهوة السعودية قصة بمشاهد تؤكد أصالتها كمشروب ساخن عبر القرون. فهناك (القهوة الصّافية) وهي الأصل. ثم جاءت (القهوة المُهيّلة) فأصبحت المشروب الرسمي. وجاءت القهوة المخلوطة بتوابل مستوردة يفضلها البعض. وكان لاحتساء مشروب القهوة الساخن ثلاثة أوقات: قهوة الفجر قبل العمل. قهوة الضحى لاستراحة العمل. قهوة العصر لختام يوم العمل. كَسْر القاعدة يتم حسب الظروف الاجتماعية.

وحتى نصل مرحلة احتساء القهوة، توقد نار الحطب، ثم يُهيّأ وعاء التحميص الحديدي (المجرفة). نمسح سطح بطنها بقطعة قماش نظيفة. أحيانا يُدهن بوصلة من شحم، أو سمن صاف، ربما لتكريم معدنها الذي يحمص لنا قهوتنا. توضع (المجرفة) على النار. تقدير مدى حرارتها يعود للخبرة. تجهز طبخة (البن الصّالبي) الأخضر السعودي، المنقّى من الشوائب، والأجزاء المكسورة، ليصبح متناسق الحبات، تفوح منه (بنّة) ترتقي بالنفس وصاحبها.

توضع حبات الطبخة في بطن (المجرفة)، التي تعتلي النار الهادئة، ثم تُقلّب الحبات بـ(المحراك). وحسب التقدير نسحب (المجرفة) من فوق النار، ونعيدها، ويتكرر المشهد حتى يفوح عبق تحميص القهوة في المكان، وتنفض حبات البن المحمص قشرتها الرقيقة، وتُطرد خارج (المجرفة)، وهذا مؤشر على انتهاء متطلبات التحميص حسب درجة الذوق السعودي في كل منطقة. بعدها يوضع البن المحمص الحار في مكان جاف لـ(يبرد).

ثلاثة أوعية (دلال) حول النار وفوق الجمر. هناك (دلّة) القهوة الكبيرة (الخَمْرَة). تحمل بقايا (حُثْل) القهوة السابقة. هذه (الدلّة) لا تغسل. يضاف الماء إليها في كل مرة حتى تصبح طافحة بحثل القهوة التراكمي. وأثناء ترقب غلي مائها البارد، يتم وضع طبخة البن المحمصة الباردة في (النجر) النحاسي (المهراس). تُدق حتى تصبح مسحوقا غير ناعم. وبعد غليان ماء (الخمرة) (الدلّة الكبيرة)، يوضع مسحوق القهوة في جوفها. يجب عدم طفحه خارج الدلّة. يترك ليغلي تحت المراقبة حتى يستوفي وقته حسب تقدير صانعها الماهر. ثم تصب القهوة من (الدلّة الكبيرة) إلى (الدلّة الوسط الثانية)، وتترك فوق الجمر لـ(زيادة) مدة غليان القهوة تحت مراقبة حذرة، لتجنب فورة القهوة خارج (الدلّة). ثم تترك لترسيب بقايا مسحوق القهوة المطبوخة.

الخطوة الأخيرة.. تأتي (الدلّة) الثالثة المصفاة. دلّة الرسلان النحاسية الشهيرة. يوضع بداخلها (الهيل) المسحوق في قوام خشن. ثم يوضع في مجرى مرور شراب القهوة جزء من (ليف) النخل، لتمريره خاليا من بقايا مسحوق الهيل. ثم تصب القهوة من (الدلّة) الثانية إلى (دلّة الرسلان)، التي تنقل سائل القهوة المهيّلة، الساخنة، مباشرة إلى الضيوف.

لم نفقد الإحساس بلذة إعداد قهوتنا السعودية. لم تتغير طقوسها مع تغير المناخ العالمي حتى في الكيف والمزاج. أصبحنا نفاخر بقهوتنا كمشروب، وبشجرتها (الصّالبي) كمورد نستثمره بكفاءة عالية.

twitter@DrAlghamdiMH