محمد الحرز

للكتّاب حياتهم التي فيها الكثير من الأسرار والقصص العجيبة التي تغري الباحثين، وتجيب عن الكثير من تساؤلاتهم، وحتى عن فضولهم المعرفي، حتى بتنا نرى أدق التفاصيل التي تُروى عن حياة هذا الكاتب أو ذاك.

في واقع الأمر لم يتم الالتفات إلى حياة الكتّاب إلا بعدما تنبهت الدراسات التاريخية إلى الأهمية التي ترتبط بحياتهم، من حيث طبيعة إنتاجهم الفكري أو الأدبي، ومن حيث الوشائج والأسباب والعلل التي تفسر الكثير من المواقف والقناعات والآراء التي يتخذها المفكر أو المبدع في حياته وفي علاقاته.

وأحد أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الالتفات في تلك الدراسات هو أنهم وجدوا في حياة هؤلاء المبدعين، وفي حياة ما أنجزوه من كتب نظريات قابلة للحياة والتداول الثقافي والاجتماعي والمعرفي، إذا ما تم تسليط الضوء عليها، وإبداء الاهتمام بها، وإظهارها للعيان.

حدث ذلك مع العديد من المبدعين والمفكرين، فلوبير، مارسيل بروست، دوستوفيسكي، كافكا، حتى أن سارتر كتب عن حياة فلوبير مؤلفا يتجاوز فيه الألف صفحة، لم يترك ورقة صغيرة أو كبيرة في حياة فلوبير إلا وبحث عنها، وفتش محتواها. وخلص إلى نتائج أفادت كثيرا الدراسات السردية ونظرياته.

كذلك فرويد الذي استخلص الكثير من نظرياته عبر الأساطير الإغريقية ( بالذات أسطورة أوديب )، وعبر مفكرين ومبدعين كبار كأفلاطون ومارسيل بروست بالخصوص حول مفهوم التذكر أو التداعي الحر الذي تأسست عليه مقولاته حول الأنا والذات والهو.

ناهيك عن الشخصيات التي ابتكرها عالم دوستوفيسكي الروائي التي ظلت تزود التحليل النفسي بالكثير من التفسيرات والشواهد والأدلة على السلوك الإنساني.

كافكا أيضا من خلال رواية «المسخ» أو ماري شيلي من خلال روايتها «فرانكنشتاين» سيساهمان بدفع أفلام الخيال العلمي في السينما إلى ارتياد مناطق أكثر تطورا وابتكارا.

ولو أردنا أن نعمق هذه الفكرة، من خلال سرد الأمثلة من تاريخ الأدب والصلة الوثيقة المؤثرة التي صنعها في تطور المعرفة والمخيلة ومجالاتهما المختلفة، لن يسعفنا مقال أو دراسة.

لكن ما نحاول توضيحه، بصورة مختصرة أن تاريخ الأدب من خلال حياة مبدعيه ومنجزاتهم له فضل كبير على الفتوحات المعرفية التي شهدتها الحضارة المعاصرة، على الأقل منذ القرن الثامن عشر.

وهذا ما نبّه كما قلنا إلى اهتمام الباحثين في الدراسات التاريخية إلى حياة هؤلاء المبدعين.

لكن من جانب آخر، له ذات الصلة بالموضوع نفسه نرى الكاتب الأسباني سانتياغو بوستيغيو في كتابه «حياة الكتب السرية» الصادر عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع 2022، يقدم سردا ممتعا عن حياة أخرى، لا تقل أهمية عن حياة المبدع نفسه، ألا وهي حياة الكتاب، فخلف كل كتاب اشتهر بتأثيره، وخلف كل صفحة من صفحاته ثمة أسرار وقصص تعكس الظروف والحالات والتقلبات التي يمر بها صاحبه.

وأيضا ما يخبئه عالم الكتب بين صفحاته «من تساؤلات لم حُرمت بعض الكتب من حفلات التوقيع؟ ما طبيعة الكتاب الذي يوتر جهاز الاستخبارات السوفياتي؟ أي كتاب كان يقلق المخابرات النازية؟ وما الرواية التي حققت مبيعات استثنائية بعد أن رفضتها دور نشر عديدة؟».

وهو يستعير من السرد الروائي آلياته التي تشد القارئ إلى حبكة متقنة لا تنفك توهم القارئ أنه أمام قصة متخيلة، وإن كانت لا تخلو من ذلك، لكن مع تتابع السرد يكتشف القارئ أنه أمام وقائع تاريخية عن حدث ارتبط بهذا الكتاب أو ذاك.

فمثلا تحت عنوان «السجن» يسرد قصة محارب سجن في إشبيلية سنة 1597م وكان في هذه الأثناء يطلب من الحراس أوراقًا وريشة للكتابة حتى يرسل رسالة للملك، وبعد دفع ما يلزم من رسوم، بدأ يكتب الرسالة تلو الأخرى. لكن لا جواب من الملك، وصديقه في السجن يستهزئ به، وظل على هذه الحال إلى أن خطرت في ذهنه حكاية، ليطرد الملل عن سجنه، فكانت حكاية أثرت في تاريخ الأدب الروائي كله، إنه سرفانتس وقصة حياة دونكيخوت الذي ولد في هذا السجن، والذي يحتفل بذكراه سنويا في هذا السجن.

@MohammedAlHerz3