د. محمد حامد الغامدي

@DrAlghamdiMH

كتبتُ كثيرًا عن تلوث المياه الجوفية، ذات الشأن العظيم في ظل اعتمادنا عليها كمورد رئيسي وإستراتيجي مع ندرة موارد المياه الطبيعية، حيث تشكّل مصدرًا لأكثر من (95) بالمائة من احتياجاتنا المائية. هذا يوضح أهمية الحفاظ عليها من النضوب، وحمايتها من الملوثات. وقد سادت ممارسات مضرة سارعت بهبوط مناسيبها، وجفاف عيونها في بعض المناطق. فهي تعاني من غياب الإدارة، والاستنزاف الجائر، وسوء الاستعمال، والأهم تعرضها للتلوث. حيث انتشرت ظاهرة التخلص من مياه الصرف الصحي عن طريق حقنها في آبار لهذا الغرض داخل المنازل؛ بسبب غياب شبكات الصرف الصحي، وبهدف التخلص من أعباء نزف بياراتها المتكرر بواسطة الصهاريج. بدايتها كانت في مدينة جدة، حيث جاء مَن قال بحفر آبار أنبوبية عميقة وربطها بأنبوب الصرف الصحي للمنزل؛ ليتم حقن سوائل الصرف، وما تحمل إلى الأعماق بيُسر وراحة دون تكاليف متكررة.

هكذا انتشرت في أحياء مدينة جدة، وبشكل عشوائي في غفلة غير مسؤولة. ثم انتشرت في جميع مدن المملكة. وقد وقفت على بعضها في مدينة الدمام. أيضًا عشت وعايشت مشاكل حقن مخلفات محطات البترول السائلة في آبار يتم حفرها في مواقع المحطات البترولية للتخلص من الزيوت ومياه الغسيل الملوث. تلقيت شكوى بعض المزارعين في الأحساء بخروج رائحة الغازات البترولية مع مياه آبارهم أثناء ري مزارعهم. وتتعدد أشكال الملوثات من الغازية إلى الصلبة إلى السائلة. وتتأثر المياه الجوفية أكثر بالملوثات السائلة بشكل مباشر أثناء حقنها لمستوى المياه الجوفية أو تسرّبها بشكل حر. أيضًا تتأثر المياه الجوفية بشكل غير مباشر بالملوثات الغازية التي تتفاعل مع بخار الماء، وتنزل مطرًا ملوثًا على الأرض، حيث تتسرب إلى المياه الجوفية السليمة فتلوثها.

وهنا أرجو التنويه عن مصير آبار الصرف الصحي في مدينة جدة مع إزالة الأحياء العشوائية. هل تم أخذ آبار الصرف الصحي في الحسبان قبل الإزالة؟ هل تم رصدها؟ هل تم الإفصاح عنها من قِبَل أصحاب العقارات العشوائية التي تمت إزالتها؟ إن بقاء هذه الآبار دون غلق يُشكل خطرًا على مستقبل نقاء وصلاحية المياه الجوفية. وقد كتبتُ منوهًا إلى أن بعض الأبحاث أثبتت وبسبب هذه الآبار أن تلوث المياه الجوفية امتد لأكثر من (100) كيلو متر خارج مدينة جدة. الموضوع بحاجة إلى جهد الجهات ذات العلاقة وتعاونها لرصد وتتبع نتائج هذه الممارسة، والعمل على وقف حفر هذه الآبار في جميع مناطق المملكة. حاليًّا.. هل تطفو جدة على بحيرة من مياه الصرف الصحي؟ هل المياه الجوفية في محافظة جدة خالية من ملوثات هذا الصرف الصحي الذي يتم حقنه إلى أعماق الأرض عن طريق حفر الآبار؟

إزالة الأحياء العشوائية أمر مهم، والأهم العمل على غلق آبار الصرف الصحي في هذه الأحياء، بطرق علمية وفنية. أيضًا حصر بقية الآبار في الأحياء القائمة، والعمل على حث أصحابها بالإفصاح عنها؛ بهدف حماية المياه الجوفية. التعاون بين الجهات المسؤولة والمواطنين ضروري للقضاء نهائيًّا على هذه الظاهرة، ليس فقط في مدينة جدة، ولكن في جميع مدن المملكة وقراها، وريفها الزراعي.

آبار الصرف الصحي نشاط استجد للتخلص، بدون عناء وتكاليف، من مياه الصرف الصحي إلى بطن الأرض، حيث المياه الجوفية النقية والثمينة والإستراتيجية. إذا كان هذا النشاط قد ساد بسبب الجهل بخطورته، فهذا لا يعني استمراره. أن يتوقف ويتم قفل هذه الآبار على حساب الجهات المسؤولة؛ لضمان الإفصاح عنها دون خشية من تحمُّل الأعباء. أو يتم إعطاء مُهلة وبعدها يتم غلقها على حساب أصحابها، ومعاقبتهم في حال تجاهل الإفصاح عنها، حتى لو وصل الأمر حد مصادرة العقار. حماية المياه الجوفية من التلوث مسؤولية الجميع. مياه إستراتيجية تهم حياتنا وحياة أجيالنا القادمة، وستظل كذلك في ظل ندرة الموارد المائية الطبيعية في مملكتنا حفظها الله، وقادتها، وأجيالها.