د. محمد حامد الغامدي

* قراءة لمشهد البشر في مواجهة الأوبئة التي يخترعون، تدير نفسها بنفسها، تحرِّك البشر رعبًا وقسوة، وتهدد وجوده. مَن ينتصر في النهاية؟ عدوها عقل بشري آخر سوي، يفكر، يحلل، يتدبَّر، يتأمل، يستنتج، ويتخذ القرار. العقل البشري مركز الحِكمة ومالكها، الأهم للجسم وللحياة سلبًا وإيجابًا. أجهزة الجسم في خدمته وتعمل لصالحه. غياب العقل يكتب نهاية الفرد وطاقاته. فكيف عظَّم الإسلام العقل البشري؟ عظَّمه برفع المسؤولية عنه في ثلاث حالات: العقل المجنون، حيث يتعطل إدراكه؛ العقل النائم، حيث يتوقف حضوره؛ وحالة العقل الجاهل، حيث لم يبلغ رشده. هل توضح هذه القراءة مدى أهميته في زمن الأوبئة حتى وإن كانت سلوكًا اجتماعيا غير سوي؟

* إنتاج العقل غير السوي -بمعايير العلم- خطر يواجه البشر، فالعقل تركيب منزوع العاطفة، جاهل في الأصل. كنتيجة يأتي السؤال: مَن يغذي العقل بالمعلومات؟ بها يواصل عطاءه سلبًا وإيجابًا. يشكل أقصى فائدة إذا توسَّع في مجال واحد. خطير إذا تجرد من المعايير الإنسانية. المعلومات تتحكم في العقل وقراراته. كنتيجة هناك عقول تتحكّم بأخرى. عقول تصنع المعلومة وأخرى تستعملها. مع هذا الوضع يأتي استعمار العقول من خلال تجهيله بالمعلومة المغلوطة. إن ربط العقول القوية ببعضها يستطيع التحكم في عقول أخرى جاهلة، ويستطيع أيضًا بجبروتها التحكم في عالم العقول بزيادة جرعات تجهيلها. قدرات العقل تتوسع دون نهايات، فتزيد مساحة الاستيعاب بالعلم. فهذه المدارس والمعاهد والجامعات من إحدى وظائفها زيادة استيعاب العقل واستثماره، وتوظيف قدراته. هكذا يكون العلم سلاح مَن لا سلاح له.

* العقل يُدير الطاقات التي وضعها الله في البشر بالتساوي. هناك مَن يستغلها إلى أقصى حد. هل هذا ما أشار إليه القرآن الكريم في الآية (33 الرحمن): {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}. فهل يعني بالسلطان هنا قدرات العقل، ومدى استيعابه لأقصى درجات العلم والتعلم والمعرفة البناءة؟ الطاقات التي استودعها الله في البشر ثابتة. والديانات محور معيار الحياة الإنسانية. وقد جاءت في ثلاث نُسخ من الشرائع: اليهودية، النصرانية، ثم النسخة الأخيرة شريعة الإسلام. حتى الديانات الأخرى تعظّم أيضًا هذه الحياة الإنسانية.

* إن استغلال الطاقات محور استدامة نجاح كل شيء. وهذا لا يتحقق إلا إذا جعلت للعقل شأنًا ورفعة. فهل استطاعت العقول المنحرفة الخفية تحييد شرائع القِيَم والمبادئ، وقواعد السلم والسلام، والرحمة والعدل، ومكارم الأخلاق؟ هل جعلت من طاقة العمل، وطاقة التعلم، وطاقات الأمل والتفكير والإبداع والطموح مجالات عدوانية مفتوحة أمام العقل دون قيود؟ أليست هذه هي طاقات (التمكين) التي وردت في سورة الحج الآية (41)؟: {ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰاهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَاةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ}.

* التَّمكين جاء أولًا لتوضيح أنه هبة ربانية لانتظام حياة البشر، وفق شروط ربانية أيضًا، تكبح مواجهة متغيّرات حياة العقول السلبية. الآيتان السابقتان تتحدثان عن شيئين: (العقل) كسلطان، و(التمكين) كقوة ومنهج حياة لهذا العقل. لماذا تنحرف مهمة العقل الإنسانية؟ مَن يقف خلف هذا الانحراف؟ مَن جعل العقل يحمل فلسفة سلبية مطلقة، دون خضوع لفلسفة منهج الديانات والشرائع السماوية التي يتم قضمها مع الوقت. أليس هذا مشروعًا عالميًّا لعقل منحرف يعمل لاختطاف عقول البقية مع وظيفتها؟ كل الشرائع تتعارض مع مصالح هذا المشروع. كنتيجة تم تحييدها واستبعادها من المشهد. زمن الأوبئة لا يُرى إلا بعين واحدة.. فجعلوا العقل كذلك.

* العقل لا (يُستنزف).. لكن مداركه تتوسَّع لصالح (المُسيطر).. هنا تكمن الخطورة. استطاع زمن الأوبئة أن يجعل العقل أكبر أداة وسلاح للقهر وللإبادة وللسيطرة والكراهية والاستعباد. جعلوا العقل وباء وأداة فساد وإفساد. هل يصحّح شركاؤنا في الحياة مسار العقل البشري، وقد فاق عددها (8) مليارات عقل؟ أم يعملون لإنهاء وجوده؟

twitter@DrAlghamdiMH