عبدالعزيز الجاسم

لا أزال أراه بشكل يومي، ذلك الرجل الهرم الذي يتوكأ على عصاه معتمرا قبعة زرقاء، ينتظر من المارة من يتوقف ليصعد إلى سيارته، تارة يذهب للسوق كي يبتاع احتياجات منزله، وتارة أخرى يزور مسقط رأسه جنوبا ليقف على أطلال حياته الماضية، لعله يصادف فيها بعض من بقي من أبناء جيله، قلما أوقفته الأجواء الماطرة أو حرارة الشمس الشديدة، هو مستمر في صراع الحياة بما تبقى لديه من قوة، لا يتلكأ في الطلب، ولا يخشى مخاطر الوقوف على ناصية الطريق، والأهم من ذلك أنه لم يسأل أحد أبنائه وبناته المساعدة، هم كما أعرفهم منهمكون في صناعة حياتهم، بين الطبيب والكاتب والساعي خلف الأضواء الاجتماعية، لقد أعدهم ليحاربوا الحياة بطريقتهم لا طريقته، وانكفأ مبتعدا عن تلك الحياة التي لا تناسب فكره ولا طبيعة معيشته.

لكني ومع ذلك أتساءل، إن لم تكن نتيجة الغرس ثمرة يحصدها المزارع، فما الهدف من غرسها؟ حتى أشجار الزينة التي نبتاع شتلاتها ونغرسها أمام منازلنا نأمل منها ظلا وإضافة جمالية ونسيما عليلا أو صدا للأتربة والغبار على أقل تقدير، الغريب أن ذرية ذلك الرجل الهرم مثقفون جدا، ناصحون لغيرهم ومؤثرون فيما يقولونه ويكتبونه، لكنهم -حسبما أرى- لا يطبقون ما يكتبونه ويقولونه على أنفسهم، والدليل أبوهم الشيخ الكبير الذي لا يزال يصارع الحياة ليعيش وربما يعيل بعضهم من جهده.

لقد جمعتني الصدفة به يوما أثناء تبضعي لبعض نواقص المنزل، وطلب مني أن أوصله لبيته وكان يدفع عربة مليئة بالحاجيات، لم أستطع أن أرفض طلبه رغم امتعاضي قليلا من ثقل ما اشتراه والذي أرهقني تحميله وتفريغه حينما انتهيت من إيصاله، سألته بعد جملة من الحوارات عن أحواله وانعدام وجود من يساعده على شراء وحمل كل هذه التموينات، فأجابني بأن لا أحد متفرغ لمعاونته، وأن من واجبه ألا يشكو بيته من أي نقص في المؤن والمتطلبات الحياتية، صمت لفترة ثم أشرت بأدب إلى سنه الكبير، وأن من في عمره يجب ألا يرهقوا أنفسهم، وأن عليه أن يريح بدنه بعد رحلة سنين طويلة من العمل والكد والتربية، تبسم حينها ورد علي بكلمتين فقط، «الله كريم».

بعد ذلك اللقاء سرحت في التفكير طويلا، وتبادر لذهني جملة من الأسئلة التي قد يتعرض لها أغلب الآباء في زمننا، منها على سبيل المثال، هل يجب علينا - كآباء وأمهات - أن نصرف كل حياتنا في إعداد الأبناء ومساعدتهم باستمرار على شق طريقهم وتوجيه أقدامهم نحو النجاح؟ هل نزرع في أبنائنا وبناتنا كما زرع هذا الشيخ في أرض أبنائه التي جنى منها الحنظل بدل الورد؟ هل يجب على العائل منا أن ينفق عمره كي يعبد طريق من يأتي بعده فقط؟ دون انتظار أي مردودات شخصية! والسؤال الذي لا يفارقني كلما رأيت ذلك الشيخ صباحا، هل أخطأ صاحبنا في طريقة تنشئته لأبنائه؟

@azizaljasim