يمكن القول بثقة مطلقة إن العرب عرفوا نقد الشعر من خلال أسواقهم التي يعرض فيها الشعراء بضاعتهم، وأشهرها سوق عكاظ، فكان المحكّمون وقتذاك يصدرون أحكامهم القاطعة حول هذه القصيدة المعروضة أو تلك إذا توافرت فيها عدة شروط حيوية، على رأسها جزالة اللفظ، وحسن الوقْع، ومدى تأثيرهما على السامعين، وما تتمتع به القصيدة من نقاط جودة تستحق على ضوئها النشر والإذاعة بين الخلق، ومن أشهر المحكّمين في ذلك الزمان قدامة بن جعفر، وابن رشيق، وأبو هلال العسكري، وابن المعتز، وعبدالقاهر الجرجاني، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وغيرهم، فكانوا يقفون بكل بصر وبصيرة على قوة القصيدة أو ضعفها، فيبيحون نشرها بين الناس أو حجبها متكئين في ذلك على ما يتماوج في القصيدة من بلاغة وإبداع، أو خلوها منهما، فنقدهم البديهي يقوم في أساسه على الإعجاب بمعنى العمل ومبناه، والتأمل في حسنه، وسهولة لفظه.
وانطلاقًا من ذلك فإن التحكيم يرتبط مباشرة بحسن تعبير الشاعر، وجزالة معناه، واستعارته أوصافًا سارية بين الناس، فنقد المحكّمين في أسواق الشعر المعروفة وقتذاك يخضع لمحاسبة فنية دقيقة، وذوق رفيع، لابد أن يتحلى به صاحب القصيدة، وقد ينحو نقد الشعر أحيانًا نحو المطارحة الشعرية البيانية، كما هو الحال في كثير من الصور المعروضة أمام المحكّمين، كما أن التحكيم في حد ذاته ينطلق عند إصداره من مفاهيم بُعد النظر، وحسن الذوق وسرعة البديهة، وتلك عوامل حيوية إذا ما توافرت في أي محكّم فإن نقده في هذه الحالة تحديدًا يخرج سليمًا ومتعافيًا ومنطقيًّا؛ لارتباطه الوثيق بالقواعد والضوابط والمفاهيم الأدبية، وابتعاده عن التعصب والإرجاف والإسفاف.
mhsuwaigh98@hotmail.com