أ.د. هاني القحطاني hanih@iau.edu.sa

الإنسان كائن لغوي، وهو كائن اجتماعي أيضا، وبالتالي فإن فهم البشر للعالم وتفاعلهم معه، ودقة استخدامهم للغة يحدد إلى درجة كبيرة كثيرا من فهم الناس لمواضيعهم الاجتماعية. وتبقى قصة بناء برج بابل الأسطوري وتفرق الخلق لاختلاف لغاتهم أبلغ تعبير عن ذلك.

حديثنا اليوم عن العمارة، وهي كما هو معلوم بالضرورة لا تنشأ في فراغ، بل يلزمها سياق اجتماعي، عادة ما وصف هذا السياق بمصطلحات تنسب هذا السياق للمكان، أو لجماعة من الناس، أو لطائفة بعينها، أو لدين محلي، أو عالمي. ومن هذه المصطلحات التي كثيرا ما ترد العمارة في سياقاتها هناك مصطلحات: الحضارة، والثقافة، والدولة. هذه المصطلحات (المفاهيم) الثلاثة مركزية إذا ما أريد لنا تأسيس وعي عمراني يستند على أسس معرفية صلبة، بعيدة تماما عن أي انتماء كان، أو أي تنميط مسبق أيا كان نوعه، أو تصورات أيديولوجية، أو عاطفة جياشة. وسيكون لنا في هذا المقال وقفة مع مصطلح الحضارة. وقد يبدو الهدف من وراء ذلك للبعض على أنه ضرب من الفلسفة، وقد يكون بالفعل كذلك، لكنه من الضرورة بمكان لكي يتم التعامل مع الظاهرة قيد الدراسة (العمارة) وفق مفاهيم واضحة للخروج بتصورات معرفية راسخة. وقد يبدو محتواه تاريخيا صرفا، وهو أيضا كذلك، غير أنه يستحيل علينا الولوج إلى عالم الحداثة التي نتوهم أننا نعيشها، قبل أن نقف وقفة معرفية مسؤولة أمام التاريخ وإعادة فهمه من جديد.

ليس هنا مكان التفصيل في مفهوم الحضارة، فقد تناولها المؤرخون والجغرافيون وعلماء الاجتماع وأدب الرحلات وكثير من الموسوعات العلمية بكثير من التفصيل، وتكفي هنا الإشارة إلى العمل الموسوعي الضخم للأمريكي ول ديورانت و«قصة الحضارة» في 28 مجلدا. غير أنه بالإمكان القول بكثير من الاطمئنان إن مفهوم الحضارة قد ارتبط بالاستقرار طويل الأمد في منطقة جغرافية معينة ومن ثم تشييد ما أمكن للإنسان أن يشيده في فترة تاريخية معينة. ولعل في الجذر اللغوي «حضر» أساسا لغويا يدعم هذا التصور الجيني للمفهوم.

والحضارة مرادفة للمدنية، وهذا أمر مفهوم بالضرورة فلأن الإنسان كائن اجتماعي كانت المدينة هي التجسيد الاجتماعي الذي يجد فيه الناس أنفسهم وقد دخلوا في علاقات متنوعة ضمن منظومات اجتماعية، مستمدة من مصادر ثقافية كالدين والفلسفة والأخلاق والاقتصاد ومعطيات التاريخ وضرورات الجغرافيا. ضمن هذه العلاقات باختلاف صورها وأصولها تبنى العمارة. ومتى ما وجدت المدينة وجدت العمارة بالضرورة.

ضمن هذا التقديم الخاطف لمفهوم الحضارة يمكن إدراج العمارة في عدد كبير من المجتمعات على أنها عمارة حضارات. ويندرج تاريخ العمارة الكلاسيكي الذي يتم تدريسه في معظم كليات العمارة ذات المرجعية الغربية ضمن عمارة الحضارات بدءا من التاريخ القديم للمصريين القدماء، والسومريين ومن تلاهم في بلاد ما بين النهرين، مرورا بمدن الإغريق، فالامبراطورية الرومانية، وما تلاها في العصور الوسطى، والنهضة، وما قبل الحداثة، فالحداثة وما بعدها، وصولا إلى اليوم. ضمن هذا التيار العام لتاريخ العمارة هناك عمارات نشأت في حضارات موازية زمنيا كالحضارة الصينية، والحضارة الهندوسية، والحضارة الإسلامية والحضارة الأرثوذكسية الشرقية. أما عمارة القارة الأمريكية قبل كولومبوس فهي عمائر يدرجها البعض تحت راية الحضارة تارة، ويدرجها البعض تحت راية الثقافة تارة أخرى.

الحضارة منتج بشري، ولأن المعطيات الأولية (طبيعية كانت أم ثقافية) لكل حضارة تختلف بالضرورة من مكان لأخر على سطح الكرة الأرضية، فقد اختلفت الحضارات عن بعضها بالضرورة. ويبقى للجوار الجغرافي دوره الحاسم في ربط عدد من الحضارات كما هو الحال في حضارتي الإغريق والرومان، وهو ما أدى إلى تشابه عماراتهما، تماما كما هو حال الصين باعتبارها مددا جغرافيا لحضارات شرق آسيا.

لعل أهم ما يربط بين هذه الحضارات هو استمراريتها في الزمان والمكان أيضا. هذا سر بقائها وهو أساس تحضرها. لقد كان الحضور في المكان والبقاء فيه سمة حاسمة لوصف العمارة في هذه الكيانات الحضارية. لقد كانت عمائر حضارات.. لكن ماذا عن العمارة الإسلامية؟. هذا ما سنعرفه في المقالات القادمة.