فهد الصقري

‏@al_sagre

حزينة تلك اللحظات التي نقف بها محبطين أمام مرآة الحقيقة، ومرارة الإنكار.. حينها يكون الشعور مُثقلًا بالمطر الأسود.. المطر الذي يهطل على قلوبنا ليذيقها قساوة الخيبة، وملوحة الخذلان..

الخذلان.. ذلك السيف الذي يقطع شرايين القلب، وأحبال جسور المحبة.. هو تلك الدهشة التي تعترينا، ونحن نُبصر كل هاتيك الجراح التي تركها بنا مَن كنا أحرص الناس على إسعادهم.. مَن ضحكنا معهم.. وبكينا أمامهم.. وفتحنا لهم أسرار قلوبنا المقفلة، وأسوار قلاعنا العاتية.. وكشفنا لأعينهم ما لم نتجرأ يومًا على كشفه!!

هو تلك المفاجأة المُدوِّية التي تهز كياننا قبل أجسادنا؛ لتوقظنا من سُباتنا العميق، ومن غفلتنا الساذجة التي كنا على علمٍ بها، ولكننا جاهدنا كي لا نصحو منها..

هو الحسرة على دقائق حياتنا، ودفء ابتساماتنا... على اليد التي شددنا على أناملها طويلًا خشية أن نفقدها.. بيد أنها ارتخت أمام منعطفها الأول، وتخلَّت عن كل ما أودعناه بها من ثقةٍ، ومحبة، وأسرار..

في الخذلان لا صوت لك، ولا دموع، ولا ذاكرة.. فهو الوحيد القادر على تجريدك من كل هؤلاء.. وهو الجدير بصفعك أكثر، وأكثر؛ لتتذكر أنه لا شيء يربطك بما سبق سوى حبالهم الواهية، ومواثيقهم الهزيلة الكاذبة.

لتعلم أخيرًا أن كل ما مررت به من دفءٕ لم يكن سوى جليد أحلامك، وكل ما تذوَّقته لم يكن سوى حنظل أوهامك، وكل ما نسجته من حقائق لم يكن إلا دليلًا على إدانتك، واتهامك..

الخذلان ليس فقدًا.. ولا هو انكسار، ولا خيبة.. فنصله أحد من نصالهم، وجرحه أعمق من جراحهم.. إذ معه وحده تصبح الوحدة ستارًا نلوذ به من عار نفوسنا، وسياط تأنيبها؛ لنغلق على أنفسنا الباب، تلو الباب.. ولنعتزل الرفاق، والأصحاب.. حيث لا ثقة هاهنا ولا أمان، ولا سكينة..

أيها الخذلان يا باب الرجوع إلى النفس، واحتضانها.. يا حزننا الذي لامس أرواحنا، وأرهق أجسادنا... يا آخر ابتساماتنا، وأقدسها، حيث بعدك لا صديق، ولا حبيب، ولا قريب.. لا شكوى تبث من أفئدتنا، ولا دموع تسكب في دلاء أصحابنا.. ولا حقائق تروى، ولا جراح تفتح.. يا حكيمنا المتمرس.. ويا معلمنا العنيف.. تجبرنا طقوسك الحزينة، ووسائدك الغارقة... ورسائلك الممزقة على الاكتفاء بأنفسنا... على الانغلاق على ذواتنا.. على لمس جراحاتنا، كلما أخذتنا الغفلة إلى تجارب جديدة.. لنتذكر دومًا أن نصمت أكثر.. وأن ننغلق أكثر.. وأن نتراجع دائمًا خطوتين إلى الوراء..

أنت يا صاحب الطعم المرير، والوحدة الباردة، والدمعة الخجلى التي تترنح على أعتاب أعيننا، فلا هي قادرة على المُضي فوق خدودنا.. ولا هي تقوى على الثبات في محاجرنا المندهشة، وأعيننا الحزينة الباكية.

لقد جمعتنا أيها الخذلان نحن البشر جميعًا، ولقد وحَّدتنا في ذات البوتقة.. فمَن منا لم ينله منك حظ، أو نصيب؟.. ومَن منا لم يملك يومًا عصيبًا لن يُمحى من سراديب الذاكرة؟.. ومَن منا لم تتملكه الصدمة؟، ولم تشلّه الواقعة؟.. ولم يقف خجلًا أمام نفسه؟.. لاطمًا إياها.. حاضنًا ارتعاشها.. فلا هو قادر على تصديق مجرياتك، ولا هو مستطيع أن يرد الأمس ليمحو كامل ذكرياتك..

وها أنا اليوم أرى نفسي بعد أن عالجت جراحك الغائرة، وتعلَّمت دروسك القاسية، ورسمت الحدود حول جسدي، وروحي، ونفسي.. أقف لا ممسكًا بيد.. ولا متعلقًا بقريب، ولا غريب، ولا مستعدًا لدفع ضريبتك الباهظة فيمن سأثق بهم، وأمد معهم أواصر المحبة، وجسور التواصل؛ لأجعل من نفسي فريدًا، متفردًا.. أعامل الناس بسرية المشاعر، ورمادية المواقف.. فبعدك الحياة كتمان بكتمان.. يا من زرتنا، وأرهقتنا، وأخذت معك الدفء، والسكينة، والأمان.