من طبع الدنيا أنها متقلبة الأحوال، أيامها بين صعودٍ وهبوط، تتبدّلُ فيها الأقدارُ كلمح البصر، فهي كما وصفها أبو الحسن التهامي:
جُبِلَتْ على كدرٍ وأنت تريدها.. صفوًا من الأقذاءِ والأكدارِ
ومُكلّفُ الأيّام ضدَّ طباعِها.. مُتطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ
وأما الإنسانُ فهو كائن ضعيفٌ وإن تظاهرَ بالقوة، هشٌّ قابلٌ للكسر ولو بدا في ظاهره صلبًا.
لا سيما إذا ضيّقت الدنيا خِناقها عليه، وتقاذفته مشاعر الخوف والشك والحيرة. يشعر بأن فراغًا لا متناهيًا يبتلعه ببطء، وبأن الدنيا سقطت في قبضة ليلٍ سرمدي لا صباح بعده، ولكن من رحمة الله أن يقيّض لك في حال ضعفك وانكسارك مَن يربت على كتفك، يحاول أن ينتشلك من قاع اليأس وشِباك الحزن. يشاطرك لحظتك ومشاعرك. تستند إليه فلا تقع، وتتكئ عليه حتى تستقيم. فيأسرك بفعله ولو كان بسيطًا، وتبقى رهينًا لجَميله وممتنًا لصنيعه مدى الحياة.
جاء في كتب التفسير والسيرة قصة الصحابة الثلاثة الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك دون عذر، فهجرهم رسول الله، وأمر الصحابة ألا يكلموهم حتى يقضي الله في أمرهم، واستمر الحال على ذلك خمسين ليلة، حتى أن كعب بن مالك «رضي الله عنه» وصف وضعه حينذاك، وقد كان أحد الثلاثة، بقوله: «قد ضاقت عليّ نفسي، وضاقت عليّ الأرضُ بما رحبت»، ولما أنزل الله توبته عليهم، وسمع كعبٌ الخَبرَ انطلق يسابق الريح إلى مسجد رسول الله، فلما دخل المسجد قام إليه طلحة بن عبيدالله يهرول، حتى صافحه وهنَّأه. وعن هذه اللحظة بالذات يقول كعب: «والله ما قام إليّ رجلٌ من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة».
ربما يرى البعض فعل الصحابي الجليل طلحة أمرًا بسيطًا لا يستحق هذا الامتنان كله، ولكن صدق المشاعر وتوقيت الفعل هو ما جعله عظيمًا في عين كعب «رضي الله عنهما»، وفي حادثة الإفك، حين اتهم المنافقون أم المؤمنين عائشة «رضي الله عنها» في شرفها، وآذوا رسول الله «صلى الله عليه وسلم» في عِرضه، وتأخر الوحي عنه قرابة الشهر، حتى نزل ببراءتها قرءانٌ يُتلى إلى يوم القيامة.
يُروى أن امرأةً من الأنصار دخلت على عائشة في حجرتها خلال تلك الأزمة، وقد هجرت الناس، وألمَّ بها الحزن والأسى، فبكت معها المرأة كثيرًا دون أن تنطق بكلمة. مما دعا أم المؤمنين أن تقول: «لا أنساها لها»..!
فكونوا قريبين من الناس، وعززوا مكانتكم لديهم بالمواقف والمشاعر الصادقة. شاركوهم همومهم واهتماماتهم، وكونوا حاضرين حضورًا يليق بكم في أفراحهم وأتراحهم.
وفي المقابل كونوا أوفياء لجميل صنع الناس لكم ووقفاتهم معكم، ممتنّين لمعروفهم ولو كان صغيرًا، يحدوكم توجيه الله لعباده (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)، مستشعرين أنه «لا يعرف الفضلَ لأولي الفضلِ إلا ذوو الفضل».